من سلطة الميتافيزيقا إلى ميتافيزيقا السلطة ، دينامية على درب تكسير الأصنام ..
سعيد ألعنزي تاشفين
تبين مختلف التأويلات، حول الحداثة أن إيمانويل كانط شكل مرآتها دون منافس . و تاريخيا تأكد أن التراكم من أجل استنبات الحداثة كانت بدايته منذ ميلاد » مقال في المنهج » الذي دافع بصاحبه بقوة إلى بناء معنى متجدد للوجود على أساس الفكر بدل الإيمان. ولأن البنية الفيودالية كانت تمنع الفكر بالحديد والنار طيلة الأزمنة القروسطية الذي تحالفت فيه السلطة الزمنية بالسلطة المكانية لإجهاض كل محاولات التحرر، التي كانت ارهاصاتها تظهر بأشكال محتشمة قبل ديكارت بقرنين على أقل تقدير، فإن ربط الوجود بالتفكير عبر نظيمة الكوجيطو كان إشارة تصدح فلسفيا بأن عهدا جديدا قد حل وأخذ العزم على الانبثاق و التشكل. ومن » أنا أفكر أنا موجود « ، إلى رفع الوصاية على العقل من خلال الثورة الفكرية على كل أشكال الوصاية على الفرد؛ بدأت مرحلة جديدة من تاريخ العقل الذي رسم طريقه كانط عبر التوفيق بين التفسير الميكانيكي للطبيعة و التفسير الغائي ، حيث كان يؤول نظام الكون بمنطق الغائية. وما يهمني هنا هو أن ميلاد سؤال ما الأنوار لم يكن سهلا اللبثة بحيث نجح كانط في تفجير المعاني والدلالات وتبسيط التأويل لصالح النقد القوي الطقوس و المؤسسات، لما كان يتميز به السياق العام من حجْر مطلق على العقل ومن تمويت ممنهج لقدرة العقل على تجاوز سياجات الكهنوت. لذلك ولد سؤال معنى الأنوار من بين متاريس التخلف ليوجه التفكير نحو اشراقات العقل بدل القبول بمتاهات التاريخ القدري الذي شرعنت به السلطة الدينية الفساد والتحكم على شاكلة محاكم التفتيش التي حاصرت الفكر الحر و بلغت من عنفها درجة احراق جيوردانو برونو حيا ومحاكمة كاليلو ومضايقة المفكرين . فكانط إذن كان جريئا منهجيا لكونه جعل تحرير العقل منطلقا اجرائيا للحسم مع التأويلات التيولوجية المنحرفة عن قصد، خدمة لهيمنة الجهل المقدس الذي شكل أهم مصوغات العنف الكهنوتي ضد الحرية في الفكر والتعبير طيلة عصور الإقطاع. ولذلك نجد ميشل فوكو، على غرار هايدغر » يعتبر كانط عتبة الحداثة وهو ما توافق عليه الكثيرون. إنه المفكر الذي سيجعل الفلسفة تنزل من ضبابية السماء نحو جدلية الأرض لتعانق تناقضات اليومي وتبحث لها عن حلول و مخرجات خدمة لدولة المواطنة التي تجلّت مع فلاسفة الأنوار. بمعنى أنه سيجعل الفلسفة تهتم بالإنسان في بعديه التجريبي والمتعالي، وهي القسمة التي لم تكن ضيزى لأن كانط أسس لها بوضوح وجرأة كبيرين بما مهد لظهور النيو – إنسان كموضوع على سطح المعرفة. ولأهمية النص الكانطي المؤسِّس الشهير الذي جعل الثورة العقلانية على الوصاية مدخلا أوليا ملزِما من أجل إرباك حسابات العنف المقدس الذي انخرط في شرعنة هوس الجهل المقدس في اتجاه تنصيب العقل رسولا للمرحلة على نقيض ظلامية العصر الأمريكي الوسيط. ونجد فوكو يعترف أن النص الكانطي المؤسِّس يكتسي أهمية مزدوجة ؛ أولا فهو يتناول الحدث التاريخي محاولا فهم قيمته وتأثيره على الأحداث اللاحقه له، وثانيا لكون النص يؤسس لأنطولوجيا الحاضر وما بعده عبر التعقيد لعلاقة جديدة مع الزمان / التاريخ بعيدا عن المحددات الغائبة ذات المنحى التيوقراطي. بمعنى أنه سؤال يعيد تأويل فكرة الزمن بعيدا على رتابة الفهم بمنطق قدري ثابت كما كانت الكنيسة تفعل طيلة عشرة قرون لصالح أنظمة التحكم الارتكاسي .
إن كانط منهجيا كان يحاول استبانة تميز العصر الراهن، عمّا سبقه من عصور بما يجعله يتخذ من راهنية الزمان / التاريخ موضوعا للتفكير الفلسفي وكأنه كان مكتشف فترة التاريخ قبل كانط رغم الاختلافات على مستوى البرهنة والاستدلال . إنه في عدة سياقات كان يؤسس للإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من حقهم من الحرية في التفكير بتلقائية من خلال الأعتراف للفرد بالقدرة على التشكل كشخص اعتباري قائم و مستقل. ويعترف ميشل فوكو صاحب الأركيولوجيا المعرفية أن فكر كانط أرخى ضلاله على القرن 19 تحديدا وعلى الفلسفة الحديثة عموما. وأمام قوة ما جاء به نص التنوير من رجحان مصداقية العقل على حساب التفسيرات الكاثوليكية للتاريخ، كان كانط عتبة الحداثة سواء من المنظور الأنتروبولوجي أو من المنظور الأركيولوجي أو من حيث عقلنة علم التاريخ. و لقد صدق فوكو عندما اعترف أن كل مسارات الحداثة وروافدها تلتقي عند كانط الذي حرك بركة التاريخ الآسنة وجديد الروح في جسد الزمن المتهالك والذي أنتج جسدا حضاريا منخورا .
إن رفع الوصاية كأداة إجرائية كانت ولا تزال كفيلة بالانتقال من مختلف التأويلات » المقدسة » عن الوجود و الإنسان / التاريخ، نحو علمنة الفهم لصالح تأويلات جديدة لا ترهن قدر البشر بمتاهات الميتافيزيقا كما حددتها السلطة الكنسية المستبدة على أنقاض العقل طيلة عصور الانحطاط لدواعي فيودالية بئيسة. فالاعتراف للإنسان بالحق في التفكير دون أية رقابة سابقة تمتح من احتكار شرعية السماء أو تنهل من الاستفراد بوسائل الإنتاج ضمن نمط إنتاج فيودالي مؤسس على جحيم السخرة لم يعد مقبولا أمام ما حضي به العقل والتاريخ والإنسان من شرعيات جديدة على قاعدة براديغم المواطنة بمضامين جديدة للسلطة وتدبيرها ؛ ثم الوجود في عموميته وما يكتسيه من أهمية كعنوان لعهد جديد فهما و تفسيرا وتأويلا وإدراكا. ومهما ركز ميشل فوكو حفرياته باتباع مسالك التنقيب التي حددها كانط، فهيغل لم يبتعد قيد أنملة بحيث يعتبر أن ماهية العالم الحديث تتركز في فكر كانط الذي هو بؤرة العالم الحديث التي تنعكس على كل المستويات بما يثبت فكرة كون كانط مرآة الحداثة ومصمم مضمونها. واعتبر أن براديغم الحداثة وفق المنظار الكانطي ينطلق من العقل النقدي الذي نصبه صاحبه محكمة عليا يتعين أن يخضع لحكمها وقرارها كل شيء، ولا صلاحية لأية أحكام تتخذ خارج مشروعيتها بما يرضي الفرد الحر المسؤول والمنفلت من دوغمائيات الغائبة التي كانت تزكي عنف السلطة. وعبر الذاتية المجردة كما قعد لها الكوجيطو الديكارتي والوعي المطلق بالذات كما عند كانط؛ تتحقق مشروعية العقل النقدي المؤسس لحقبة الأزمنة الحديثة وقوامها الحداثة من خلال لبنات العقلانية والحرية والمسؤولية والعلمانية التي تحسم منهجيا حدود الدنيا عن الأخرة. و ليتبين لنا كيف كان كانط دقيقا جدا في استعمال أدوات تشريح حادة في تناول جسد العقل والتاريخ / الحضارة، وقدرته على استبدال المفهوم الجوهري الموحد للعقل كمفهوم متوارث عن التراث الميتافيزيقي القديم، نحو الفصل المنهجي بين ملكات ثلاث؛ أي بين العقل العملي، والحكم الجمالي، والمعرفة النظرية، و بذلك يتشكل العقل النقدي على قاعدة المعرفة النظرية والحكم الأخلاقي والتقييم الجمالي. ون معيارية العقل نحو شرعيته تتحقق قدرة العقل النقدي على لعب دور الحكم أو القاضي الأعلى تجاه كل مكونات الثقافة مرورا بالعقل العملي الذي يرسم حدود دوائر الثقافة برمتها كالعلم و التقنية والقانون والاخلاق والفن والنقد الجمالي .. وفق معايير صورية بما ينتهي بتمايزات ابستيمولوجية وفلسفية بين الأنشطة المعرفية على أرضية دينامية مستمرة تشكلت بوضوح من خلال استقلال دائرة المعرفة عن دائرة الاعتقاد .
و من إيمانويل كانط المؤسِّس لعهد جديد إلى الكانطيين الجدد كما عند » لوك فيري » تستمر راهنية الفكر الحديث في إسهامين رئيسيين وهما العلمانية الفلسفية ومسألة الذاتية . إنها دينامية فكر » يساري » وضع حجره الأساس كانط ، ثم عرج على إسهامات ما قبله وما بعده من ديكارت نحو سبينوزا وليبنتز حيث يوجد المطلق أولا ثم يظهر الإنسان . لكن هذه المرة لا ككائن محدودٍ، ومتناهٍ، وناقصٍ، وعاجزٍ و جاهلٍ، وحساسٍ، بما يحبسه في جحر الموت والخطيئة، بل نحو إنسان جديد متحرر من هوس السياجات متجها نحو أجرأة عقله النقدي عمليا بما يقوي قناعة تخليص التاريخ من هوى العقيدة وممارسة التفكيك حتى تستقل الأرض عن السماء كمدخل معرفي إبيستيمولوجي للزمن الحديث .
و أزعم أن الحداثة مع كانط تجلّت في الرغبة القوية في الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي نحو استمداد الإنسان معياريته وضماناته الخاصة من ذاته باعتباره ذاتا مرة مستقلة لها كينونة متفاعلة مع التاريخ، وليس مع الزمن، باعتبار التاريخ فحوى ذاتانية متشكلة من الإنسان الذي هو مقياس كل شيء .
إن كانط نافلة للكلام، صحّح تناقضات العقل، ورمّم كل الخدوش التي نالت من أدمية الإنسان، وأعاد الاستقلالية للعقل من خلال الحسم مع توريط العالم العلوي في مفارقات العالم السفلي. وبذلك تطلب تنزيل رفع الوصاية كتعريف كانطي للأنوار، التقعيد للعقل النقدي وللعقل العملي ولنقد ملكة الحكم؛ تارة بتحليل أداتي منهجي جدلي، وتارة بتأويلات متعالية معيارية، وكأن كانط يبحث عن الإنسان الأعلى قبل أن يجده نيتشه في منعطف فاصل بين الحداثة وما بعدها في استضمار جواني لأخلاق السادة المتحررة من أخلاق العبيد التي قضت مضجع نيتشه صاحب المنهج الجينيالوجي المتسلح بالمطرقة لكسر الأصنام .
وعلى أية حال استنتاجا لقد نجح كانط في عقلنة التاريخ كمدخل للحداثة، في حين فشلنا في فهم الحداثة رغم كل المحاولات التي ولدت منذ لحظة الصدمة الأولى عام 1844 مع هزيمة إسلي النكراء. ولذلك ظلت القبيلة والعشيرة والعائلة بتأويلات فيودالية مُضمرة في الذات المغربية الجمعية وهما جماعيا يلازم حتى النخب التي تتبجح بالانتماءات القبلية في معرض بحثها عن الشرعية التي هي صنم جديد مستديم ضمن نسقية وهم التفوق من صلب ما أسميه بميتافيزيقا التاريخ. ولا تزال حجية العقل عندنا، الهنا و الأن، دون الطموح الكانطي في بنيات عقلانية تتجاوز حدود تحديث التقليد كمخطط ذكي لتيسير سيولة الثابت كنقيض تاريخاني للمتغير، شجاعُ ومتهورُ، يعانق التحديث لعرقلة الحداثة عبر دعم البراني لمحاصرة الجواني، بما يجعل التقدم الحاصل في الأزمنة الراهنة مجرد بريق خادع؛ وطبعا ليس كل ما يلمع ذهبا، وهو ما يتطلب بعث الروح في السؤال الكانطي من جديد .
إننا نحتاج بشكل ملح إلى بعث الروح في العقل الكانطي في بعده النقدي العملي وصولا إلى حُسن تأويل هيغل في نظيمة الفكرة المطلقة وفهم تمرين التاريخ بعد هضم تمرد باروخ سبينوزا الذي خرّب زيف الضباب وعقلن الشك في الأساطير المؤسِّسة، إلى نيتشه وضرورة استيعاب أهمية المنهج الجينيالوجي في تخليص التاريخ / الأخلاق / الغائية من الطابع السحري المشرِعن للوهم، الذي يلطخ عقل القطيع / أخلاق العبيد و ينتصر للميتافيزيقا عبر تبخيس الوجود، نحو فوكو ولزومية تفكيك جسد السلطة / التاريخ / الجنون / التنشئة الاجتماعية لصالح النقد المربك لهدوء المؤسسات في اتجاه تحرير السلطة من أثقال التاريخ. وكل هذا ينبغي في نظري أن يتحقق ضمن براديغم عام أساسه الانتقال التاريخاني من سلطة الغائية الميتافيزيقية نحو حرية إبيستيمولوجية الأنوار .