نذير

نذير
شارك

من إبداعات شيخ القاصين عبد الحميد الغرباوي

في الشارع الخالي، المتاجر و نوافذ العمارات  مغلقة. العصافير المحلقة التي لا تغادر سماء المدينة في كل الفصول، بدت له نادرة في الفضاء و لا تزقزق.. تحلق في كل الاتجاهات كالمرعوبة.. مرت قطة ذيلها بين قائمتيها الخلفيتين يتبعها صغارها تبحث عن ظل بين أو تحت السيارات المركونة صفا طويلا جنب الرصيفين..

شمس الظهيرة لافحة، الجو ثقيل و ريح غريبة ساخنة تهب لحظة ثم تستكين أخرى.

طرف من قماش أبيض يتدلى أسفل نافذة غير مغلقة تماما لشقة في طابق من طوابق عمارة. طرف القماش الأبيض يرفرف قليلا ويخفق خفقا أصم.. رفرفته تشبه تلويح يد براية بيضاء تعلن استسلامها في حرب طاحنة..

و على غير انتظار، انتابته رغبة في الضحك، ليس لنشوة فرح، لا يعكس الضحك دائما بهجة الروح، قد يضحك الإنسان لأشد اللحظات شقاء..

كانت إلى جانبه تسير، سير مسرنمة، لكنها لم تكن كذلك، كانت يقظة، فقط لم تكن تبالي بخلو الشارع، ولا بالمتاجر المغلقة ولا بالعصافير ولا بالقطة وصغارها، شيء واحد كان يعذبها، يخنقها ويجعلها تطلق زفيرا طويلا، الحرارةُ التي ترغمها على أن تفك مع كل زفرة زرا من أزرار قميصها الوردي الرقيق الشفاف إلى أن فكت جل أزراره، فبدا جزء كبير من نهديها النافرين..

لم ينتبه إلى عري صدرها..

قالت همسا:

ـ متى تُمطر؟..

التفت إليها صامتا فرأى صدرها عاريا يترجرج إثر كل خطوة تخطوها..لاحظ أنهما متحرران، طليقان من قيد حمالة الصدر..

استرجع بعض تفاصيل ليلة البارحة. لم يكن ثمة استعداد لفعل أي شيء. ملل وقرف، وعرق غزير بارد جعلهما يحتفظان بمسافة بينهما، رغم أنهما كانا منجذبين إلى بعضهما..

همست إليه قائلة، وهي تنظر إلى الطريق تقيس المسافة بعينيها:

. هذه الشمس ليست عادية..

ظل صامتا..

ـ أشعر بالعطش..

واصل صمته..

بدا صمته كما لو أنه اختيار، أمر مقصود، كي لا يخذله لسانه فيجره إلى البوح بسر خطير…

ثم، وبشكل لا إرادي،  رمت نظرة إلى السماء..

. ما هذا الضوء الوهاج.. أ لا ترى؟.. إنه شعاع .. شعاع أزرق..

رمى نظرة مريبة إلى حيث تشير..

الخبر إذن صحيح..

لم يعد صوتها همسا:

ـ الطريق طويلة.. متى تنتهي؟..

ليس هذه المرة الأولى التي يمران من هذا الشارع قاصدين بيت العجوز والدته، فلم يبدو طويلا، لا نهاية له؟…

أم خطواتهما البطيئة بفعل الجو الثقيل، هي التي تجعلهما يريانه طويلا؟..

الأمر إذن ليس إشاعة..

سمع صراخ رضيع قادم من شقة عمارة من العمارات التي وراءهما …

لعل السبب جوع أو وجع في البطن..

ولعل السبب تسرب الحرارة المفرطة إلى الشقق..

استدار إلى الخلف، كان طرف القماش الأبيض المتدلي من النافذة نصف المغلقة مازال يرفرف قليلا ويخفق خفقا أصم، رفرفته أشبه بتلويح يد براية بيضاء تعلن الاستسلام في حرب غير متكافئة…

راح يكلم نفسه:

 » إذن الأمر فعلا يندر بخطر كبير.. بحدث جسيم..

من يسعى إلى جعل البشر يتناقص؟..

من يسعى إلى سحق البشر واحتلال الأرض؟.. »…

انتبه إليها، تسير منهكة، تتعثر..

ـ ـماذا تفعل العجوز الآن؟ يجب ألا نتركها وحيدة.. هيا، لنسرع.. ما عاد يفصلنا عن نهاية الشارع سوى القليل ثم نصل إلى بيتها..

سحابة سوداء غطت الشعاع .. ظلام.. شبه ظلام..

ـ أ ما يقع هنا يقع في أماكن، في مدن، في بلدان أخرى؟

أجاب في توتر:

ـ  أكيد يقع شيء من هذا القبيل..العالم يحترق..

جذبها من ذراعها:

ـ هيا أسرعي..

ـــــــــــ

من مجموعة قصصية قادمة: ( لاطمأنينة في مدينتي)

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *