التطوع… الواجب الغائب

بقلم: د. خالد فتحي
لعلّ الفائدة الأبرز لمبادرة حزب الاستقلال وأمينه العام بإعلان سنة 2025 « سنةً للتطوع »، هي بلا شك محاولتها الجادة لإعادة إحياء هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي كادت أن تندثر وتتوارى خلف مشاغل حياتنا اليومية المتسارعة. ولم تقتصر المبادرة على التذكير بأهمية التطوع فحسب، بل أبرزت أيضاً الحاجة الماسة للعودة إلى تأصيله في نسيجنا الاجتماعي ونشر فضائله بين أفراد المجتمع، ليستعيد مكانته كإحدى القيم الأساسية، ورافداً لا غنى عنه في مسار التنمية والتقدم. فالتطوع قيمة ذات أثر إيجابي عميق، يعود نفعها بالقسطاس المستقيم على المستفيدين منها وعلى المتطوعين أنفسهم على حد سواء.
لطالما كان التطوع قيمة متجذرة في تاريخ المغرب، حاضرة بقوة في مختلف محطاته، لا سيما العصيبة منها. وها هي اليوم تشق طريقها مجدداً نحو الواجهة بعد فترة من التراجع النسبي. لقد أصبحنا ندرك اليوم أن انخراط الأفراد في العمل التطوعي لم يعد بالمستوى الذي كان عليه في فترة ما بعد الاستقلال، وهي الفترة التي ساهم فيها الحزب نفسه بفعالية في تعبئة طاقات الشباب من أجل البناء الوطني، وشقّ طريق الوحدة نحو شمال المملكة. هذا الإرث التاريخي يمنح المبادرة الجديدة وجاهةً خاصة، ويجعل من إحياء روح التطوع ضرورة وطنية ملحة مرة أخرى.
إن التطوع، قبل أن يكون نشاطاً حزبياً أو جمعوياً، أو حتى سمة ثقافية مغربية، هو في جوهره دعوة دينية سامية. فقد كان الإسلام سبّاقاً في حثّ الأفراد على التكافل الاجتماعي والاهتمام بشؤون الآخرين. وفي هذا السياق، نجد الآية الكريمة من سورة البقرة: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، تدعو صراحة إلى إعلاء شأن التطوع كسبيل إلى الخير ونيل الثواب الإلهي.
ورغم تأصل هذه القيمة في موروثنا الثقافي والديني، إلا أنها للأسف أصبحت في أحيان كثيرة ممارسة موسمية تقتصر على أوقات الأزمات أو الكوارث الكبرى. ومع ذلك، يبقى بصيص أمل يضيء في الأفق، مؤكداً أن هذه القيمة النبيلة لا تزال كامنة في عمق الشخصية المغربية، عصية على الاندثار.
ويُعزى تراجع ثقافة التطوع في المجتمع المغربي المعاصر إلى عوامل اجتماعية واقتصادية متعددة. من أبرزها التحول نحو « الأسرة النووية » الأكثر انغلاقاً، مما أثّر سلباً على شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية التي كانت تغذي قيم التعاون والتضامن. كما أن غياب دور الأسرة الممتدة قلّص من انتقال الخبرات والقيم المجتمعية عبر الأجيال، مما أدى إلى تراجع ملحوظ لهذه القيمة في النفوس.
وما فاقم هذا العزوف هو تنامي النزعة الاستهلاكية التي هيمنت على مجتمعنا، كما هيمنت على مجتمعات أخرى، مما دفع الكثيرين إلى التركيز على المصالح الفردية الضيقة، وتجنب الانخراط في الأنشطة التطوعية التي تتطلب بذل الوقت والجهد، وربما المال، من أجل الآخرين. يُضاف إلى ذلك أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة قد حدّت من شعور البعض بالمسؤولية الجماعية وأضعفت روابط التماسك الاجتماعي.
إن ما يميز العمل التطوعي هو منفعته المزدوجة التي تعود على المجتمع والمتطوع في آن واحد. فإذا كانت الفوائد المجتمعية للتطوع بديهية ومعروفة، فإنه يجدر بنا التأكيد على أن التطوع يمثل فرصة ثمينة للمتطوع نفسه لتنمية مهاراته الشخصية والمهنية، وتعزيز روح التعاون والعمل الجماعي لديه. علاوة على ذلك، يسهم التطوع في ترسيخ مشاعر الولاء والانتماء للوطن، ويولّد شعوراً عميقاً بالرضا والسعادة الداخلية لدى المتطوعين، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على صحتهم النفسية والروحية، وعلى المزاج العام للمجتمع، وبالتالي على المناخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد في البلاد. وبهذا، يُعدّ التطوع وسيلة فعالة لتعزيز القدرة الجماعية على مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف المشتركة التي تخدم الصالح العام.
لهذه الأسباب مجتمعة، يكتسب التطوع أهمية مضاعفة في البلدان النامية كالمغرب، حيث يُعتبر أداة حيوية لسد الفجوات التي قد تخلفها السياسات العمومية في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والبيئة. ومن خلال الانخراط في العمل التطوعي، يمكن للشباب اكتساب مهارات جديدة، وتطوير قدراتهم على إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل القائمة، مما يعزز صمود المجتمع وقدرته على تجاوز الأزمات والتحديات، خاصة في الأوقات الصعبة.
وهنا، لا بد من التأكيد على أن التطوع ليس حكراً على فئات أو تنظيمات معينة، سواء كانت حزبية أو جمعوية، بل هو حق وواجب يقع على عاتق كل فرد في المجتمع. إنه دعوة مفتوحة لجميع المواطنين والمواطنات للمساهمة الفاعلة في الجهود المشتركة الرامية إلى بناء وطن أفضل للجميع. يجب أن نتجاوز النظرة القاصرة التي تحصر التطوع في إطار الجمعيات والمنظمات، لنعتبره مسؤولية جماعية يتوجب على الجميع الاضطلاع بها.
وفي هذا السياق، يمكن للأحزاب السياسية أن تلعب دوراً محورياً في تشجيع التطوع وتحويله إلى فعل واعٍ ومنظم ومستدام. يتجلى هذا الدور أساساً في تنظيم الأنشطة التطوعية بشكل ممنهج، وتوسيع نطاقها لتشمل كافة المناطق، مع إيلاء اهتمام خاص للمناطق النائية والمهمشة. كما يمكن للأحزاب توفير برامج تدريبية للمواطنين الراغبين في الانخراط في العمل التطوعي، وإنشاء شبكات فعالة للمتطوعين قادرة على تنفيذ مشاريع ذات أثر اجتماعي واقتصادي وبيئي ملموس.
بهذا المعنى، من الضروري أن نعي بأن التطوع يتجاوز كونه مجرد عمل خيري أو اجتماعي، ليصبح في جوهره فعلاً سياسياً بامتياز. فهو يجسد المواطنة الفاعلة التي لا تقتصر على المطالبة بالحقوق، بل تمتد لتشمل أداء الواجبات والإسهام الحقيقي في بناء المجتمع ونهضته. ومن هذا المنطلق، يصبح التطوع أداة قوية لتعميق اندماج المواطنين في الشأن العام وتعزيز أواصر الوحدة الوطنية.
إن أملنا معقود على أن يصبح التطوع جزءاً لا يتجزأ من السياسات الوطنية، وأن يتم التعامل معه كاستراتيجية تنموية أساسية، لا كنشاط هامشي أو ترفي. يجب أن يتحول إلى محرك يساهم في تسريع وتيرة تحسين الواقع المعيشي للمواطنين، ويدفع الجميع نحو المشاركة الفعالة في بناء مستقبل أفضل لوطننا. فالتطوع ليس مجرد آلية للتضامن المؤقت، بل هو بمثابة عقد اجتماعي متجدد يربط بين أفراد المجتمع، ويعزز قدرتهم الجمعية على مواجهة تحديات الغد.