بالأعمال لا بالأعوام!
عبد الرحيم الوالي
يُحكى أن صحافياً ما سأل الزعيم الصيني، ماو تسي تونغ، عن سنه فكان جواب ماو: « العمر يُقَاسُ بالأعمال لا بالأعوام ».
لا يهم إن كانت هذه القصة حقيقية أم محض مروية من المرويات التي تُنْسَجُ عادةً حول الزعماء التاريخيين، والأنبياء، والقادة الروحيين، والآلهة، وغيرهم من الرموز السياسية أو الفكرية أو الدينية أو ما سوى ذلك. لكن الأهم هو أن ماو تسي تونغ، في هذه الحكاية، يضع حداًّ فاصلا بين العمر البيولوجي للفرد من جهة وعمره السياسي من جهة أخرى. فالأول طبعاً يُقاس بالسنوات. أما الثاني فهو يُقاسُ بما يقدمه الفرد من أعمال. ولا أحد بإمكانه أن يجادل اليوم في حجم العمل الذي قدمه ماو تسي تونغ لشعبه إذ أنه نقل الصين من بلد متخلف، غارق في الخرافة، سنة 1949 إلى قوة عالمية تتطلع اليوم إلى ريادة الإنسانية جمعاء.
نعم، ذاك ما حققه ماو عبر المسيرة الكبرى وبعدها عبر الثورة الثقافية، ثم الثورة الصناعية، في الصين. وخلال اثنتين وسبعين سنة فقط صارت الصين ما هي عليه اليوم. وهي في عمر الدول، مدة قصيرة جدا.
بالمقابل فإن لدينا في « أجمل بلد في العالم » ثقافة حزبية وإعلامية موبوءة، لا تسأل الفرد عن رصيده العملي أو العلمي، ولا عن المشاريع التي يحملها لصالح البلاد ولصالح الإطار السياسي الذي ينتمي إليه، وإنما هي – على النقيض من ذلك تماما! – تسأله عن أقدميته هنا أو هناك، ولا ترى مقياس الكفاءة والنجاعة بقدر ما هي تنظر إلى القَدَامَة والأقدمية، متناسيةً أن أقدمية الديناصورات على الأرض لم تُؤَمِّنْهَا من الانقراض.
هذه الثقافة المسكونة بهاجس السالف والسلف، والمرتهنة إلى البالي والعتيق، لا يتم الانتباه عادة إلى خطورتها. بل كثيرا ما يتم تمجيدُها، وتبجيلُها، فترتفع مدائحُ الماضي في وجداننا الجماعي، والفردي أيضا، وننسلخ من الحاضر ونتغافل عن المستقبل. وعلى قاعدة هذا الانشداد إلى الماضي يبرُزُ حُرَّاسُ « أوهام القبيلة »، بعبارة فرنسيس بيكون، فيَتَسَلْطَنُ علينا الفقيه والزعيم التاريخي، وتستوطن عقولنا أنماطٌ متجاوزة من التفكير والفعل، ويمتد بيننا وبين الراهن حجاب « الجهل المقدس » كما كان يصفه الراحل محمد أركون عن حق. والثمن باهظ والكُلفة لم تعد تُطاق: فشلٌ ذريع على أصعدة التنمية والتعليم، وإفلاسٌ حزبي شبه كامل، ورداءة زحفت بالتمام والكمال على مشهدنا الفني والثقافي والإعلامي، وخواءٌ تربوي رهيب طغى على حياتنا اليومية في غياب تام لأبسط مظاهر السلوك المدني. وهلم جرا.
إلى أين نسير؟
إلى الهاوية طبعا. والذين يقودوننا إلى هذا المصير هم، بالضبط، أعداء الجديد والتجديد، أولئك الملتصقون حَدَّ التماهي بكراسي الزعامات الحزبية، والعاضُّونَ بالنواجد على مظاهر التخلف والتشدد الأعمى باسم الدين، والمُتَمَتْرِسُونَ وراء الأوهام.
نعم، لقد ضاعت من زمننا السياسي والمجتمعي والثقافي سنوات ثمينة بسبب كل ذلك. فحينما جلس على عرش المغرب، قبل اثنتين وعشرين سنة، ملكٌ شاب متشبع بقيم الحداثة ارتسم أمامنا أفق اللحاق بالركب الحضاري العالمي، وراودتنا أحلامُ الانعتاق من براثن التخلف، وداعبت خيالنا صورة مغربٍ يكون بالفعل « أجمل بلد في العالم ». لكنْ، وبينما كانت قَدَمُ الملك تغوص في الوحل وهو يدشن مشاريع التنمية تحت الأمطار في شمال البلاد، كانت أيدي « زعماء الغفلة » تغوص في القذارة وتطعن الملك والشعب والبلاد من الخلف. وحين تلفت الملك في ما حوله لم يجد سوى ديناصورات حزبية لا تتقن إلا ترصيع الخُطَب، ولا تمتلك من السبل العلمية والعملية لتنمية البلاد إلا الرطانة البلهاء. وكانت النتيجة أن الشباب المغربي، الذي طالما اتُّهِمَ بالعزوف عن السياسة، ووُسِمَ بالجهل بأسبابها، هو الذي خرج إلى الشارع في فبراير 2011 معلناً سخطه العارم على القيادات الحزبية البائسة والمفلسة. لكنْ، وعوض أن تستوعب هذه الفزَّاعات الدرس وتحمل حقائبها إلى غير رجعة، فهي ما تزال إلى اليوم تُكَشِّرُ عن أنيابها في وجه كل مَن جاء يحمل أي محاولة للتجديد والتغيير. وكلما برزت على الساحة طاقة جديدة يمكنها الإسهام في تحقيق التقدم للبلاد، وإنتاج الرخاء للشعب، وُوجهت بالتهميش والإقصاء، ورُفِعَت على رقبتها سيوفُ الطرد وكأن الأحزاب السياسية، التي هي مؤسسات دستورية ومِلْكٌ لجميع المغاربة، قد تحولت إلى محميات لسلالات « الزعماء » المهددة بالانقراض.
في ظل هذا الواقع البئيس يضيق الخيار ولا يبقى في الأفق سوى واحد من اتجاهين: إما الانحدار إلى القاع الأخير الذي تشدنا نحوه فزَّاعاتٌ حزبية لم يعد الشعب يطيق حتى مجرد النظر إلى وجوهها (إن كانت للفزاعات وجوه أصلا)، أو فتح المجال أمام طاقات جديدة بعيدا عن منطق قياس الأعمار السياسية بالأعوام وبسنوات الأقدمية هنا أو هناك. ولعل تنزيل النموذج التنموي الجديد يستدعي دينامية سياسية جديدة، ويستلزم تعاقدا سياسيا جديدا بين المؤسسة الملكية من جانب ونُخبة سياسية جديدة من جانب آخر. ذلك أن الرهان اليوم يهم بناء مغرب النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتشييد مَلَكية النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبناء مُواطنات ومُواطني النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهو ما لن يتأتى بالمومياءات الحزبية التي يبدو أن المواد المستعملة في تحنيطها لم تكن بالفعالية المطلوبة ففاحت رائحةُ عَفَنِها وعَطَنِها وآنَ أوانُ طَمْرِها.