ابن رشد والحداثة

ابن رشد والحداثة
شارك

بقلم: ذ. المعانيد الشرقي

لا شيء من مقاصد البرهان، إلا بلوغ الحقيقة و اليقين فيما يعتقده الإنسان في طروحاته حول عديد القضايا، التي يواجهها في وجوده، وإذا كان الأمر يرتبط بمسألة النقد، الذي سيقودنا إلى التنوير، كغاية نسعى إليها من خلال فكر ابن رشد وسجاله التاريخي مع كتاب الغزالي  » تهافت الفلاسفة « ، فإننا لن نقتصر على ما تم تدواله بهذا الشأن حتى نوغل في الماضوية، و لكن سنرجع بكم إلى تراث الفكر الإسلامي و النبش فيه بمعاول العقل و وضعه إلى جانب قضايا الراهن الذي رهن عقولنا و سَيّجها حتى باتت تعيش في الزمن الماضي دون الإندراج في عوالم التنوير والحداثة.

لنفترض جدلا، أن ابن رشد عاصرنا اليوم، كيف ستكون نظرته إلى المتداول في قضايا الفكر الفلسفي عامة والفكر الإسلامي خاصة؟

أكيد أن الجواب على هذا السؤال سيتناغم مع طروحاته تلك التي ساقها في كتابه  » تهافت التهافت  » رداً على الغزالي، بالرغم من الفارق الزمني، ولو أنني أرى أن الغزالي أكثر تنويرا من فقهاء اليوم الذين أوغلوا في الفكر المتطرف البعيد كل البعد عن ما جاء به الدين الإسلامي كجوهر. غير أن مفهوم التهافت نفسه وجب تأصيله والوقوف عنده بقوة من أجل رفع اللبس عليه. التهافت من فعل، تهافت يتهافت تهافتاً من اسم المفعول، مُتهافت، بمعنى مُتسابق، أو مُتساقط أو مُتناقض. وفي الاصطلاح، يعني التهافت، تساقط الشيء و تهاويه أرضاً، و معنى التهافت الذي يقصده كل من الغزالي وابن رشد تساقط آراء الفلاسفة ليس كلية بل بالتبعيض فقط.


إن النقد الذي دشنه الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة جاء في زمن و فترات الجدل التي عاشها حتى أنه لم يوظف البرهان كلية في دحض أفكار الفلاسفة الذين توجه إليهم بالنقد، لكنه رام الجدل والانطلاق من مقدماتهم التي اعتبرها صحيحة أحياناً و أنها أوصلتهم إلى نتائج خاطئة أو العكس، بحيث انطلقوا من مقدمات خاطئة وبنوا عليها نتائج صحيحة، وهذا ما اعتبره الغزالي تهافت خصوصا في شق الإلهيات التي سنأتي على ذكرها فيما سيأتي من الحلقات، بحيث سنخصص لها حلقة كاملة. ونكملها بالطبيعيات التي انتقد فيها ابن سينا أساساً..
والأكيد أن الغزالي لما انتقد بعض توجهات الفلاسفة، لم يكن استثناءاً في هذا، فما من فيلسوف إلا و ينكر على بعض الفلاسفة جزءا من آرائهم، بل أنه لا يستطيع أن يشيد موقفاً لنفسه دون هذا النقد، لأن العملية الفلسفية برمتها معنية بمراجعة المعطى المعرفي من كافة الوجوه، وابتكار المصطلح الفلسفي الجديد الذي يضمن للتفلسف السير إلى مداه الأقصى.
غير أن ابن رشد حينما توجه بالنقد لكتاب أبي حامد الغزالي لم يكن يعترض على أفكاره كُلية، وإنما
اعتمد أولاً على رأي أرسطو باعتباره المحقق لأعماله وشارحها خصوصا في باب أقيسة المنطق و المقولات العشر، ولعل قيام ابن رشد بهذا التحقيق، قد تم بإيحاء من الغزالي حين ذكر بأن رأي أرسطو يحتاج إلى تفسير وتأويل و تحيين، أو بإيحاء من ابن حزم الذي تنبه إلى ذلك أيضاً. كذلك اعتمد ابن رشد على أرسطو باعتباره الفيلسوف الحقيقي الذي يجب أن تُعتمدَ آراءه دون غيره.. وهذا في مجمله دفاع عن أطروحة المعلم الأول بالأساس بعدما تم تصحيح ما لحقها من تحريف وقلق العبارة. كما اعتمد ابن رشد على نظرية قدم العالم، وأنه ضروري و وحيد وخير، استناداً إلى التلازم الضروري بين الأسباب و المسببات من كافة الوجوه..علاوة على أنه عمل على تحييد و إخراج آراء الدهريين و السوفسطائيين، ومن ثم آراء الفارابي وابن سينا، باعتبار أنهم ليسوا فلاسفة حقيقيين. ذلك أن نقدهم لا يعتبر نقداً للفلاسفة.. وأكد ابن رشد في أكثر من موضع أنه لا قيمة للآراء التي يقولون بها والتي وردت في التهافت، لأن القائلين بها إما دهريين، أي ملاحدة، أو مُنكرين للحقائق، أي سوفسطائيين.. أما آراء الفارابي وابن سينا فينسبها إلى الهجنة، لأنها لا تعبر عن آراء الفلاسفة الحقيقيين، وإنها مخلوطة بغير ذلك. وهذا مما أراد الغزالي إثباته في كتابه تهافت التهافت.
إن هذا يقود إلى أن ابن رشد يشاطر الغزالي آرائه بإزاء هؤلاء على الأقل، وإن كان يأخذ عليه الرد عليهم بأسلوب غير الأسلوب البرهاني، وعدم تحقيق أرسطو أو الاعتماد عليه، وإنما اتبع الجدل حيث عاش حياته الأخيرة مُتناقضا..
وأخيرا و ليس آخراً، أكد ابن رشد على أن الشرائع لا تؤخذ بالبرهان، وإنما يؤخذ بها مصلحة، بل وبالتقليد يقول ابن رشد: « يجب على كل إنسان أن يسلم مبادئ الشريعة وأن يقلده فيها مبطل لوجود الإنسان.  »
أين نحن اليوم من فكر الغزالي وابن رشد؟ كل شرائع الله التي جاءت في الكتاب المقدس مخصوصة بالتأويل تقتصر على خاصة الخاصة وهم الفلاسفة، وكيف لنا أن نفهم بأن الفلسفة اليوم تعيش حصاراً من ذوي العقول المُسيجة، لسبب بسيط نلخصه في تقديم المثقف استقالته من المشهد الثقافي عموماً، وعجزه عن الانخراط في الفعل داخل الفضاء العمومي عبر فلسفة تواصلية بالمعنى الهابرماسي.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *