من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة
التهامي حبشي/ إعلامي و باحث سوسيولوجي.
الحلقة السادسة
الكيفيات السوسيولوجية والآليات القانونية لممارسة الحق في المدينة:
داخل الديناميات الحضرية، يمكن رصد ثلاث حالات أو كيفيات لممارسة السكان حقوقهم في المدينة، وهي الحالات التي تم استنباطها من كتاب راهن تحت عنوان: ممارسة الحق في المدينة، الصادر بجنيف عام 2018 ( L’exercice de droit à la ville, Genève,Metispress ,2018). . الحالة الأولى، ترتبط بالممارسة اليومية للساكن أو المواطن، الذي نجده ينتج الحس المدني، أو الروح الحضرية، عبر مزاولته لأنشطته اليومية، من خلال استعمالاته المعتادة للمجال الحضري. إنها الحالة مثلا، التي يلعب فيها الأطفال في مكان عمومي، أو يتجول فيها السكان في الشوارع أو المنتزهات العامة، أو عندما يجلس فيها الشباب فوق كراسي أو مدرجات ملعب رياضي، أو عندما يقعد فيها المتقاعدون فوق مقاعد حديقة عمومية…إن هذه الممارسات أو الاستعمالات المعتادة للمجال، بما تنطوي عليه من تلبية رغبات مريحة أو مملة ومزعجة، تنتج نمطا معينا من التجمعات أو الأحياء السكنية، أومن المحيطات أو الأوساط الحضرية، لتنتج في النهاية جزءا من المدينة. والحالة الثانية، هي حالة تحويل أو تعديل المجال، وفيها يصدر الفعل الجماعي عن إرادة جماعية متحررة من أجل تغيير الفضاء الحضري. وتمارس هذه الممارسة المجالية، الموجهة والمنظمة، والتي لا تكون بالضرورة مرتبطة باليومي أو المعتاد، تأثيرا مباشرا على ماهية المدينة، أو على ما يمكن أن تكون عليه المدينة. وتمثل حالات أو وضعيات التخطيط الحضري التاكتيكي، باتباع مسارات السير والجولان المرتجلة، والاحتلالات المؤقتة للأماكن الخالية( أفرشة الباعة المتجولين) وتحويل العقارات الحضرية، أوضح مثال على هذه الحالة. حيث يأخذ السكان المبادرة في تعديل المجال الحضري، بالتدريج شيئا فشيئا، وأحيانا بشكل سري، ويفعلون ذلك انطلاقا من وضعياتهم على الهامش، أمام تعقد المساطر وصرامة المراقبة من طرف المؤسسات والإدارات الترابية. أما الحالة الثالثة، فهي الحالة التي يكون فيها باستطاعة الساكنة الالتفاف والتعبئة، والحشد والتنظيم والترافع، كتجمع مدني للالتحاق بالعمليات التشاركية في وضع وصياغة وتنفيذ مشاريع المدينة؛ حيث يكون بمقدور السكان المشاركة المنظمة في بعض المبادرات المؤسساتية، ومشاريع التهيئة أو التنمية الحضرية، التي تستجيب لبعض مطالبهم وحاجياتهم، أو تأخذ بآرائهم ومقترحاتهم في بعض مشاريع التهيئة والتأهيل، وإعادة الهيكلة والتنمية المجالية؛ وذلك في إطار العمليات المنظمة بواسطة فعاليات وجمعيات المجتمع المدني، لاقتراح وإنجاز مشاريع حضرية معينة (contre-projets)؛ وهي المبادرة التي غالبا ما تزعج أو تربك حسابات الهندسة التقليدية أو التكنوقراطية للإنتاج الحضري، لأن هذه المشاركة تتطلب أولا الوقت، حتى يتم الإعلام والفهم والإنصات، والحوار والتشاور، والتفاوض والتداول على القرار. وهي العملية، التي على الرغم من جدواها ونجاعتها، في صياغة وصنع القرارات والمشاريع الحضرية، تبطىء من سرعة دورة الإنتاج الحضري وتزيد من تعقيده. كما أن هذه المشاركة تتطلب الفضاء العمومي الرحب لممارستها، لأنه يجب فتح أماكن وقنوات جديدة، والسماح باستغلال فضاءات عديدة، قصد توسيع مجالات المشاركة الجماعية، وتيسير سبل الولوج إليها، عبر الممارسة الفعلية للحق في مجموع الإنتاج الحضري. وفِي هذا الإطار، تكون الاجتماعات العمومية التقليدية للسلطات العمومية والمنتخبة، مدعوة إلى ضرورة توسيع فضاءات ومدخلات الديمقراطية التشاركية، بتنظيم أيام تواصلية ولقاءات دراسية، وورشات موضوعاتية تشاركية، و نشر إعلانات مكتوبة ورقمية وسمعية بصرية، مع استغلال شبكات التواصل الاجتماعي، لطرح ومناقشة أرضيات للحوار والنقاش العمومي ، وفق مبادئ الحوار والتشاور العمراني والتساند أو التلاحم الترابي، تسمح للسكان، بكل فئاتهم وشرائحهم العمرية والاجتماعية ( شباب، أطفال، يافعون، نساء، معاقون، متقاعدون…)، ولا سيما منهم الواقعون في عتبة الفقر والوضعيات الهشة، بأخذ الكلمة للإفصاح والإعلان عن حقوقهم، في مسارات رسم وتحديد الاختيارات والمشاريع المناسبة لسياسة وتنمية المدينة، على مستوى مشاريع التعمير والسكن، والصحة والبيئة، والأمن والسكينة، والثقافة والرياضة والترفيه…
إن ممارسة الحق في (سياسة) المدينة يمر عبر هذه الأدوار أو الحالات أو الوضعيات الثلاث الأساسية؛ ولا يمكن لهذا الحق في الإمكان الترابي الحضري أن يكون ممنوحا أو مملى على الساكنة بشكل سلطوي فوقي وأحادي؛ بل إن هذا الحق لا يمكنه إلا أن يكون حقا قاعديا، نابعا من أسفل ومطالبا به من طرف أغلبية السكان، حتى يكون بإمكانه التبلور والتحقيق والانجاز على أرض الواقع الملموس. إن ممارسة الحق في (سياسة) المدينة لا يمكنه أن يكون حقا مضمونا على مستوى مؤسسات الفعل ( التخطيط والتنفيذ)، إلا عبر النطق به وعبر فعله، كما يرى هنري لوفيفر، ذلك لأن الحق في المدينة حق مطالب به، أي حق يجهر به حتى يرى طريقه نحو الفعل والإنجاز، ومن هنا يعد المجال أو السياق السياسي ميدانا خصبا للإعلان أو الإفصاح عن الحق في المدينة، وممارسته بمهارة سياسية تتطلب حسن استثمار وسائط الاتصال، لتيسير الولوج إليه عبر مختلف وساءل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، والإنتاج والتسويق المؤسساتي ( موسطة الحق في المدينة/La médiatisation du droit à la ville )؛ وان كانت ممارسة هذا الحق تبقى، أولا وأخيرا، في يد مبادرات الساكنة الحضرية، كركيزة محورية وأساسية في بلورة وممارسة الحق في سياسة المدينة.
إن ممارسة الحق في المدينة، لم يبق شيئا نشازا أو افتراضيا مع تطور الحياة أو الممارسة السياسية المحلية، من مستوى الديمقراطية التمثيلية (La Démocratie Représentative) التي تفرزها صناديق الاقتراع، إلى مستوى الأخذ بمبدأ الديمقراطية التشاركية (La Démocratie Participative) التي أقرها دستور سنة 2001، كآلية مكملة وكأحد الثوابت الأساسية في بلورة وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية والترابية، مما أصبح يؤسس لنموذج تنموي وسياسي جديد، ينبني على مشاركة ومساهمة كل الفاعلين، من دولة ومؤسسات عمومية، وجماعات ترابية، ومواطنين ومنظمات المجتمع المدني، وجميع القوى الحية للمجتمع المغربي. وتجسيدا لهذا التوجه الدستور، وتفعيلا للفقرة الأولى من الفصل 139 من دستور سنة 2011، حث القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، في المادة 119 ، مجالس الجماعات على إحداث آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برنامج عمل الجماعة وتتبعها..، كما نص في المادة 120 على إحداث هيئة استشارية لدى مجلس الجماعة، بشراكة مع فعاليات المجتمع المدني، تسمى « هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع » (CPEC)، يتولى النظام الداخلي للمجلس الجماعي تحديد كيفيات تأليفها وطرق تسييرها. وتختص هذه الهيئة بدراسة القضايا المتعلقة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، ومقاربة النوع على صعيد التراب المحلي.( المملكة المغربية، وزارة الداخلية، المديرية العامة للجماعات المحلية، دليل مساطر إحداث وتفعيل واشتغال وتتبع هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، سلسلة، دليل المنتخب، هيئة الأمم المتحدة للمرأة، 2017،ص.5). كما أتاح المشرع أمام الجمعيات والمواطنات والمواطنين القاطنين بالجماعة الترابية، أو الذين يمارسون نشاطات اقتصادية أو تجارية أو مهنية بترابها، والمسجلين باللوائح الانتخابية، إمكانية أن يقدموا عرائض يكون الهدف منها مطالبة المجلس الجماعي بإدراج نقطة تدخل في صلاحياته ضمن جدول أعماله، وذلك وفق شروط محددة، منها ألا يمس موضوع العريضة الثوابت المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور.(من المادة 121 إلى المادة 125 من القانون التنظيمي للجماعات. رقم 113.14). ( انظر في هذا الإطار: المملكة المغربية، وزارة الداخلية، المديرية العامة للجماعات المحلية، دليل مساطر تدبير العرائض على مستوى الجماعات، سلسلة دليل المنتخب (USAID)، 2018). كما وجب التذكير هنا، أن المشرع المغربي راعى في عملية وضع وتنفيذ برنامج عمل الجماعة لمدة ست سنوات، البعد التشاركي، حيث أقر في المادة 79 من القانون التنظيمي للجماعات، بضرورة إشراك الجمعيات والمواطنين والمواطنات في مسلسل هذه العمليات، من الإعداد إلى التقييم، مررا بمراحل التتبع و التحيين (خلال الثلاث سنوات الأولى من البرنامج). كما نجد أن المادة السابعة من المرسوم رقم 2.16.301 الصادر في 29 يونيو 2016 والمتعلق بتحديد مسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة وتتبعه وتحيينه وتقييمه وآليات الحوار والتشاور لإعداده، تنص على أن » يتم إعداد مشروع برنامج عمل الجماعة وفق منهج تشاركي، يقوم من خلاله رئيس مجلس الجماعة بإجراء مشاورات مع المواطنات والمواطنين والجمعيات وفق الآليات التشاركية للحوار والتشاور، المحدثة لدى مجلس الجماعة، طبقا لأحكام المادة 119 من القانون التنظيمي السالف الذكر رقم .113.14.
ولأن المعلومة بمثابة أوكسجين للديمقراطية، بحيث لا تستقيم الديمقراطية التشاركية وآليات الحوار والتشاور بين الفاعلين الترابيين بدون تقاسمهم للمعلومات والبيانات والمعطيات المفيدة في إعداد وتشخيص وتنمية التراب، فإن المشرع المغربي، ومن باب ما التزم به المغرب، من خلال مصادقته على معاهدات ومواثيق دولية، وخصوصا المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، إضافة على المادة 10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، واستجابة لمضامين الفصل 27 من دستور سنة 2011 والذي جاء فيه: » للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام. لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي والحماية الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة. »، أصدر المشرع المغربي القانون 13-31 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات الذي صدر بتاريخ 12 من شهر فبراير 2018، ودخل حيز التطبيق انطلاقا من تاريخ 12 مارس 2019.( انظر في هذا الإطار: ظهير شريف رقم 1.18.15 صادر في 5 جمادى الآخرة 1439 (22 فبراير 2018) بتنفيذ القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، الجريدة الرسمية، عدد 6655 ، في 12 مارس 2018 ، من الصفحة 1438 إلى الصفحة 1443). وبذلك، يكون المغرب قد عرف طفرة نوعية في مجال إقرار الحق في المعلومة، وبالتالي، أصبح من الممكن الحديث عن بداية عهد جديد من الانفتاح والشفافية والممارسة الديمقراطية، وتحسين علاقة المواطنين بالإدارة العمومية، وتوسيع مجال ممارسة الحقوق والحريات العامة. فالحق في الحصول على المعلومة، يشكل أحد المداخل الأساسية للإصلاح ومكافحة الفساد، وضمان الشفافية و الحكامة في التدبير الإداري. ولذلك، فإن التأطير القانوني لهذا الحق الإنساني ليس ترفا، ولا منة، بل هو مطلب حقوقي وتنموي صرف، باعتبار أن مبدأ شفافية الحكومات، وحق الجمهور في الاطلاع على المعلومات، وحرية تداولها، تشكل مجتمعة أبرز مقاصد الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة لما بعد سنة 2015، والتي تشكل تحديا عالميا، انخرط فيه المغرب بشكل طوعي، استجابة لالتزام المملكة المغربية المعلن عنه في ديباجة دستور سنة 2011، بتشبتها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا، والتزامها بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات. ( المملكة المغربية، البرلمان، مجلس المستشارين، « التأطير القانوني للحق في الحصول على المعلومات بالمغرب »، دراسة حول ملاءمة القانون رقم 31.13 للمعايير الدولية للحق في الحصول على المعلومات، (23 صفحة)، منشورات مركز الدراسات والبحوث في الشؤون البرلمانية بدغم من مؤسسة وستمنستر للديمقراطية (WESTMINSTER FOUNDATION FOR DEMOCRATY)، بدون تاريخ،ص.16.).
الحياة في المدينة: من ثقافة الحق إلى ثقافة الواجب:
للمواطنين والمواطنات حقوق، لكن وفِي المقابل، عليهم واجبات من أجل تنمية الشعور بالانتماء إلى المجال الترابي و وخلق وترقية الحس المدني لدى السكان.(Caroline Meggle; »Congrès des maires-Éducation à la citoyenneté où répression: comment cultiver l’esprit de civisme? »; , Publié le 29 Novembre 2017,()in BANQUE des TERRITOIRES Localtis Un média/ . إن الحق في صنع أو إنتاج المدينة، مثله مثل المواطنة كقيمة فضلى « تسمح لكل إنسان بحرية التعبير في الفضاء العمومي، » ( Jean-Paul Moulin et autres; «Accéder à la citoyenneté « ; Mis en ligne sur Cairn-info le 01/04/2010 https://doi.org/10.3917/ères.gardo.2005.01.0069)، إن هذا الحق المدني والترابي يحتاج إلى التعبير وفق تراكمات المجالات المتداخلة التي تنشأ إطارا سياسيا وفق منظور دوباربيو (Debarbieux,2014 ; »Les pratiques dans l’œuvre d’Hannah Arendt »,Cyber géo :Europe an Journal of Geography, en ligne, document672 URL :https://journalsopendition.org/cyber géo/26277) ، في تساند تام مع الفعل المدني المؤطر والمنظم، أي أفعال المواطنين الحضريين على مستويات التفكير والبناء، من خلال القوة الاقتراحية في الاجتماعات العمومية، والمشاركة الفعالة في التخطيط العمراني، وفِي مخططات النقل والتنقل، والبيئة وشق الطرقات، وإقامة الحدائق والمنتزهات العامة..؛ وذلك بناء على قاعدة أو مرجعية جماعية، تعمل على تخصيب وتحقيق عمليات اكتساب وتملك المواطنة، أي ما يسميه جوان سيبيرا بالإنتاج السياسي المشترك للمواطنة Joan Subirat ;La coproduction de la citoyenneté ;2011, cité par Matthias Lecoq ;op.2019.)؛ والذي من خلاله يخلق المواطن وينسج روابط أو أواصر مع الآخرين، انطلاقا من الإيمان بالمسؤولية المشتركة، والتضامن على أساس قيم المساواة وتكافؤ الفرص والديمقراطية، والحريّة والاستقلالية الشخصية، والإسناد الترابي والعدالة السوسيومجالية. إن المواطنة الحق لا يمكنها أن تتعزز و تترسخ إلا بواسطة ممارسة الحق في المدينة، حتى لا تكون هذه المواطنة مجرد وعاء لتلقي الحقوق المعترف بها، بل لتكون أكثر من ذلك ممارسة مدنية وسياسية، دائمة اليقظة ومستمرة الاشتغال، من خلال استبطان و استشعار حس المسؤولية المشتركة، و التضامن الاجتماعي، على مستوى المساهمة في حل أو معالجة المشاكل المشتركة J.Subirat,op.cit,2011,p.86)).٠إن هذا التمرين على/ في ممارسة المواطنة، في ارتباطه بمسألة إنتاج المدينة، كفيل بإنتاج سيرورات لإبداع وخلق فضاءات للمواطنة الجديدة والمتجددة، لممارسة حقوق التعبير والتظاهر والاحتجاج ، وكل ما من شأنه أن يعطي قيمة و مشروعية للأفعال والتصرفات اليومية، في علاقتها مع الفضاء الحضري. وهنا لا ينبغي أن تختزل قيمة المواطن في مجرد ساكن سلبي، يستهلك المدينة على مستوى السكن والنقل ومختلف الخدمات الأساسية، بل يجب أن يرقى إلى مستوى مواطن فاعل، يتصرف ويفعل في مدينته، عبر ممارساته وعلاقاته وتفاعلاته مع مكونات وكائنات محيطه الطبيعي، والايكولوجي، والبشري، و الإيديولوجي، وذلك في سياق عالمي انعكاسي، مركب ومتحول باستمرار، حيث يتجه الاهتمام اليوم، أكثر فأكثر، نحو البحث عن تبادلات جديدة بين الترابات المحلية، حتى تأخذ بعدا تعاونيا وتشاركيا واسعا، بالتركيز على التواصل بين المدن لخلق حوار بين الحواضر فيما بينها، وفي ما بينها وبين الدول والسلطات العمومية، لابتكار نماذج تنموية جديدة، انطلاقا من الوحدات الترابية الصغرى، في اتجاه الوحدات الترابية الكبرى، في إطار دينامية التفكير محليا من أجل التدبير شموليا. ( Calame. Pierre ; « Les collectivités locales et la Mondialisation ,Pour une « Alliance21 » des villes du monde » ; in table ronde n°1 du congrès de la FMCU ,Juin1998.. وكل ذلك، بالاستناد إلى المبادرات والقدرات والكفاءات المحلية، التي ينبغي عليها أن تتعلم وتعلم، بشكل دائم، الحوار مع المحيطات الأخرى: مع الشباب، والنساء، وسكان الأحياء الشعبية، والمهمشين، ورؤساء المقاولات وأصحاب رؤوس الأموال، ووسائل الإعلام، والباحثين والفنانين…، وباختصار/ مع كل أولئك الذين يمارسون مواطنتهم ومسؤوليتهم في انبثاق عالم أكثر تضامنا ومسؤولية وإنسانية.
وهذا الفعل اليومي للمواطنة المحلية والكونية، في نفس الآن، لا يحدد المدينة فقط كحق، بل يحددها أيضا كواجب. فاليوم تعمل الثقافات الحضرية السياسية منها والاقتصادية والثقافية وفق منظورات الوعي بالرهانات البيئية والصحية ( أزمة وباء كورونا كمثال صارخ عن الأزمة الصحية العالمية) على زحزحة ومساءلة السياسات الحضرية، ودفعها إلى الإنصات لهموم واهتمامات الأغلبية الصامتة، من الفئات الاجتماعية الهشة والصغرى والمتوسطة، داخل المدينة وفي هوامشها وضواحيها أيضا.
وصفوة القول، إن المدينة، الْيَوْمَ وغدا، هي حصيلة درجة انخراطنا المدني والسياسي، والمعرفي والثقافي، في فعلها و صنعها أو إنتاجها، ونتيجة لاختياراتها وقدراتنا على التعبئة والتحرك، والتنظيم والتصرف، قصد قدح الأفكار والاقتراح والفعل، كمجتمع حضري حداثي وعقلاني، ذكي واستشرافي؛ وبالتالي، فعلى الحق في المدينة، الْيَوْمَ، أن يترك المجال للتفكير الجماعي في الواجبات الإنسانية، والحقوقية المشتركة أو المتقاسمة بين الساكنة المواطنة، على المستويات السياسية، والعمرانية، والبيئية والصحية، و الاجتماعية و الثقافية. ينبغي على الحق في المدينة، أن يتماشى مع كل المستويات، من المنزل إلى الحي، إلى المدينة، ثم الوطن، فالعالم أجمع، وذلك في إطار سياق حضري خاضع لعدة ضغوطات مجتمعية، سياسية وبيئية وصحية غير مسبوقة، والتي باتت، بدون شك، تتطلب المزيد من التفكير الجماعي، وإعادة التفكير الانعكاسي في المستقبل، أمام اتساع دائرة مجتمعات ما بعد الحداثة أو « الحداثة الناقصة »، بتعبير عالم الاجتماع البريطاني أنطوني غيدنز (أنظر: أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم:د. فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى/الرابعة، بيروت، 2005.)، أو « مجتمع المخاطرة أو المخاطر »، بتعبير المفكر الاجتماعي النمساوي أولريخ بك (أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، ترجمة: علا عادل وهند إبراهيم و بسنت حسن، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2013.)، مجتمعات العولمة ذات الهجرات الكاسحة، والموبوءة بالعنف والعدوانية، وبالشك والخوف، واللايقين الذي يولد الخطر من عدم القدرة على الاستجابة الفورية والدقيقة لأمهات المعارك والتحديات التي تواجهها، الْيَوْمَ وغدا، مجتمعاتنا البشرية، وفِي مقدمتها مدننا التقليدية أو إطاراتها الحضرية الحديثة والمعاصرة.