الكتابة في السجن تحت نيران التعسف الرأسمالي، النظرية النقدية نموذجا.

الكتابة في السجن تحت نيران التعسف الرأسمالي، النظرية النقدية نموذجا.
شارك

سعيد أولعنزي تاشفين

      من باب التفاعل مع تعليقات القراء الكرام ، و توسيعا لدائرة الفائدة ؛ أروم ، الأن ، تناول موضوع إحدى أهم النظريات التي داع صيتها بين تلال المعرفة إبان ثلاثينيات القرن الماضي . إن تناول النظرية النقدية لا يخلو من ألغام و هو ما يتطلب الانطلاق من أمهات الأطاريح الفكرية لتعبيد الطريق نحو تفكيك المفهوم و تحديد دلالاته .

       لقد كانت الإرهاصات الأولى مع زمرة من الفلاسفة و علماء الاجتماع اليساريين الذين بدأ رعيلهم الأول نشاطه النظري و التجريبي مستهل القرن الماضي ، و إبان الثلاثينات تحديدا . إن تأسيس صرح  » معهد البحث الاجتماعي ،  » في مدينة الفكر  » فرانكفورت  » المشرقة ، كان منطلقا لبروز أسماء وازنة مثل الفيلسوف العميق  » يورجين هابرماس  » ؛ و من تأثر به من متتبعيه . و نوضح إن هناك من نسمهم برواد مدرسة فرانكفورت ، و يجوز تصنيفهم ضمن  » النظرية النقدية  » بعلة اعتمادهم على روح الفلسفة الماركسية في المنهج و التنظير ، و لعلها نظرية عميقة تسترعي تركيزا عميقا . و يكفي تجاوز اشكالية التسمية لكي نعترف إننا امام تحالف معرفي/ نظري بين مجموعة من المثقفين من علماء الاجتماع و النقاد المتخصصين في الحضارة و الآداب و الفن في مستويات البنية الفوقية كتجل للبنية التحتية المؤسسة بنمط الإنتاج .. و  الهم المشترك لديهم كان هو ترسيخ مبدأ النقد الثوري إزاء الأمراض الملازمة لحضارة عصرهم البورجوازية ، و التي أفرزت ظواهر جديدة في مختلف المجالات . إن كبح جماح النزعة المدنية التقنوية ، التي بالغت في تقديس العقل بمنطق اللاعقل ، كان خلف ميلاد ردود فعل مناهضة تنشد فكرة الخلاص و البحث المضنى عن عالم أفضل ممكن بعيدا عن قهر التقنية و المال و تأليه الرأسمال . و أزعم إن اولئك الباحثين كانوا اصحاب  » رسالة  » اجتماعية و انسانية نبيلة تروم التصويب و التوجيه . إنها النظرية الاجتماعية النقدية ، و قد اغامر و أصرح اننا أمام بناء ابيستيمولوجي / حضاري يؤصل للبديل ، على الأقل من وجهة نظر فكرية / معرفية . و لهذا السبب تعددت روافد النظرية النقدية ما بين  » الفلسفة التحليلية و التحليل النفسي و الظاهراتية و الوجودية ، بنوعيها ، و الهيرمينويطيقية ؛ بشكل تجاوز التصور الأول المرتبط بالنقدية و الماركسية .

      إن من أهم العناصر المثيرة للسؤال في مضمار النظرية النقدية الدور البارز الذي لعبه الجيل الأول المؤسس بأعضائه الذين كانوا في جلهم يهودا عقيدة و فهما . و حضور اليهود هنا له صلة بالإحساس البسيكولوجي  بالاغتراب الذي عاشوه ، ليس فقط في كنف مجتمعاتهم البورجوازية ، بل حتى في حضن المجتمع الشيوعي البديل للرأسمالية . إن الإحساس بالغبن و الاغتراب و القهر كان له دور أساس في التقعيد لانتماءات سوسيو – فكرية جديدة تستوعب معاناة الطبقات الشعبية و القاع الاجتماعي و عموم الكادحين . و لهذا السبب نجد الأبحاث الأولى تركز على مواضع اجتماعية ذات صلة بمشاكل المضطهدين و الفقراء و الأرذلين . إنه الانتحار الطبقي بسبب الاغتراب على قاعدة الدين و القهر الاقتصادي . و رغم ان معظمهم يهودا ميسورين إلا أنهم غيروا جلدهم تحت وطأة الإحساس بالغبن و الإغتراب من جهة حضارة لا تلبي حاجيات الروح و العاطفة . و لهذا السبب نجد إن  » معهد البحث الاجتماعي  » قد اسسه نجل أحد الأعيان اليهود الأغنياء ؛ و كان يلقب قيد حياته ب  » فليكس فايل  » . و لعل التعمق في البيان الذي يشكل الأطروحة المركزية لفكرهم ، و الذي ألقاه الأستاذ الكبير و مدير المعهد « ماكس هوركهايمر  » سنة 1931 ، كفيل بمعرفة خلفيات التفكير لدى رواد النظرية النقدية و الذين لم ينجحوا في إخفاء تأثرهم ب  » هيغل  » و  » ماركس  » ، لكن مع استدماج عناصر من التحليل النفسي من زاوية  » سيغموند فرويد  » . كما تأثروا بفطاحل فلسفة الحياة الذين خلخلوا دعائم العقل و الميتافيزيقا سيما  » شوبنهاور  » و  » نيتشه  » بالدرجة الأولى ، ثم اعتمدوا على باراديغمات التحليل عند  » دلتاي  » و  » برجسون  » . انها اذن ، بشكل ما ، نوع جديد من الماركسية الوجودية او الوجودية المتمركسة ( زواج ماركس و نيتشه ) رغم أن تصنيف نيتشه وجوديا لا يستقيم بالتمام بل بتحفظ شديد  .

     من محصلات ما سلف ؛ يبدو إن ميلاد هكذا فكر يعزى الى الأزمات الإجتماعية و الفكرية في شروط تاريخية محددة ، و الشرط الموضوعي مقعد للمعنى في هكذا سياق . فإحساس الفيلسوف و المثقف بالغبن و الاغتراب كان بمثابة بركان جارف على السائد من أنماط السلوك و التعامل المرتبطة بالمجتمعات الصناعية. إن الحضارة الصناعية و عنف النازية و هجرة المثقفين الألمان ، هربا من الإرهاب النازي و الفاشيستي ، و ما خلف ذلك من اندلاع حرب عالمية ثانية خلفت ملايين القتلى و الجرحى و التكالى ، و بشكل ابشع ؛  نجد تداعيات ما يعرف في الأدبيات التاريخية ب » الهولوكوست  » و عجز المنظمات الإشتراكية عن حلحلة الأزمات الاجتماعية و فشل الفلسفات البورجوازية و تداعياته على تهاوي الفكر المثالي ، عبر تهاوي اليوتبيات تحت قصف الرجعية الرأسمالية .. كلها عوامل كامنة وراء ميلاد تلك النظرية بين هشيم الخراب . و لست أشك إن الرجوع الى كتابات  » أدورنو  » و تلميذه المقتدر  » هابرماس  » في النقد الثقافي و الحضاري و إلى  » هايدغر  » في  » الأنطولوجيا  » قمين بمعرفة مدى قوة تأثير السياق التاريخي و السوسيو – حضاري على ميلاد النظرية .

 أضواء على النظرية النقدية الجدلية ..

       نسقيا ترتبط النظرية النقدية، لمدرسة فرنكفورت، بمعهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي الذي تأسس سنة 1923 على يد رعيل مؤسس من الفلاسفة و السوسيولوجيين وعلماء الاقتصاد وعلماء النفس والنقد الأدبي و الفني .. و كان الاعتماد على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي هو الضابط للإيقاع.

 واذا كان معظم مؤسسي المعهد من خيرة مثقفي اليهود، فإنهم كانوا من خيرة المفكرين على الصعيد العالمي. ومعظمهم كان مشهورا كنار على علم  اذكر منهم  » إريك فوم  » ( عالم النفس الاجتماعي وفيلسوف مركب ) و » فالتر بنيامين ( ناقد ادبي ماركسي )   » تيودور أدورنو  » ( فيلسوف ) و » هربت ماركوز  » ( مفكر و فيلسوف يساري ؛ المؤمن بالطلبة كطليعة تكتيكية للتغيير ) و  » ماكس هوركهايمر  » ( فيلسوف الاجتماع ) . و لقد لعب كل هؤلاء دورا جوهريا في استنبات ما يمكن ان أسميه  » ايديولوجيا يسارية مناهضة لكل Hشكال السلطة الكليانية والقهر الاقتصادي و التسلط الطبقي  » .

    أنتهي بالقول إنه مع  » أدرنو  » و » هوركهايمر  » تظهر تأثيرات ظاهرة الاغتراب و التشيؤ والفن والإبداع و ذلك تحت إكراهات القمع الذي كانت تمارسه الحضارة الصناعية التي سلعنت الإنسان وهوت به الى الحضيض ، حتى اضحى رقما ماليا قابلا للاستعباد . إن تشييء الإنسان أخطر تحول في حياة الكائن البشري بسبب هيمنة الاقتصاد الرأسمالي و عبادة الرأسمال وتأليه الربح في ظل رأسمالية الكازينو . إنها لحظة محاصرة الروح و فتح الباب على مصراعيها أمام هيمنة  » العقل الأداتي  » أو لنقل  » العقلانية التقنية  » . وأزعم،  إن كل هذا يمكن تلخيصه في العنوان الذي اختاره المثقف اليساري  » هربرت ماركوز  » لكتابه الجدير بالمصاحبة  » الإنسان ذي البعد الواحد ، دراسات عن ايديولوجية المجتمع الصناعي المتقدم   » . و كتاب جدير بالمرافقة  ل  » سيغموند فرويد  »  تحت عنوان  » قلق في الحضارة « . وأختم بالتصريح إن تنميط أشكال التفكير و قولبة السلوك في قوالب الرأسمالية الصناعية كان وراء ميلاد نزعات واعية تتسلح بالنقد الرصين و تؤسس للرفض الواعي لتأثيرات التسلط الإداري البيروقراطي الفج والاستهلاك الثقافي والإعلامي  الذي يستعبد الصورة لدعم الاستهلاك . و نظرا لقوة الحس الإنساني الذي رافع عليه رواد المدرسة النقدية فإنهم تعرضوا لمختلف أنواع المضايقات و المتابعات من لدن  » الماكينة  » الرأسمالية سيما في سياق سياسي دقيق في بحر القرن الماضي ، و ب  » بروباغندا  » طوطاليتارية متعنتة . و عليه أسجل إن فلاسفة و مفكري المدرسة النقدية لعبوا أدوارا استراتيجية في تخفيف سرعة الماكينة الرأسمالية الصناعية لصالح ما يمكن ان أسميه ب  » أنسنة  » العلائق الاقتصادية و الحضارية الرأسمالية . و ختاما ؛ إن النظرية النقدية ثورة يسارية من مدخل الثورة الثقافية ، بدل نمطية النضال ضد بؤس الرأسمالية ..

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *