وجهة نظر في النموذج التنموي الجديد
حميد المُعْطَى
جاء في خطاب ألقاه الملك بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب، أن الغاية من تجديد النموذج التنموي هو تقدم المغرب، وتحسين ظروف عيش مواطنيه، والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية
وأوضح الملك مهام اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، وقال أن لديها مهمة ثلاثية: تقويمية واستباقية واستشرافية، « للتوجه بكل ثقة نحو المستقبل »، مؤكدا على الطابع الوطني لعمل اللجنة، وللتوصيات التي ستخرج بها، « وللنموذج التنموي الذي نطمح إليه: نموذج مغربي- مغربي خالص ».
وقال شكيب بنموسى رئيس اللجنة المكلفة بإعداد النموذج إن دفتر التحملات بخصوص لجنة إعداد النموذج التنموي المغربي ينبغي أن يكون مغربيا- مغربيا، وذلك يعني أنه ينبغي أن يستفيد من المكتسبات المحققة، ويحدد نقاط الضعف الموجودة، من أجل بناء نموذج مغربي، لكن ذلك لا يمنعه من الاستفادة من التجارب الأجنبية.
وهذا يتطلب، برأي بنموسى، تشخيصا « صريحا » و »موضوعيا » للواقع، من خلال رصد المنجزات، وهي كثيرة برأيه، لكن أيضا الوقوف عند النقائص، التي تجعل هناك بونا شاسعا بين واقع المغاربة وانتظاراتهم.
وعندما يتحدث بنموسى عن نموذج تنموي جديد، فهو يقصد نموذجا شاملا، يعنى بكل مجالات التنمية. فهو نموذج اقتصادي، ينظر في إنتاج الثروة، وإنتاج الشغل، وإنتاج القيمة المضافة، عن طريق المبادرة والمغامرة والإبداع.
وهو نموذج اجتماعي تجسده العناية بالرأسمال اللامادي، من خدمات اجتماعية، وتوزيع للثروة، وتربية، وصحة، وتشغيل، ونقل، مع بحث آليات توزيع الثروة، لتحقيق عدالة اجتماعية.
وهو نموذج يبحث عن اللحمة الاجتماعية التي قوامها رأسمال الثقة، التي بإمكانها أن تحرر الطاقات، لكي تعمل من أجل تحقيق أهداف التنمية.
وهو نموذج مستدام يفكر في التغيير المناخي، وقلة الماء، والطاقة، وصحة المواطنين، وتلوث الهواء، وجودة التغذية.
وهو نموذج يسائل الحكامة على المستوى الوطني والدولي، لكي نصل إلى نوع من التعاقد الاجتماعي، الذي يسمح بالعمل على المستقبل.
وكل ذلك يعني أن النموذج الحالي لم يعد قادرا على حل مشاكل البطالة والصحة والتعليم والسكن، مما يستدعي تجديدا عميقا للنموذج التنموي الذي تعتمده المملكة، و »هذا رهان لا يمكن كسبه دون ثقة بين الفاعلين من أجل كسب المعركة ضد المعضلات التي تعوق التنمية ».
أنه من الواضح اليوم أن المجهود العمومي، الذي قامت به الدولة أظهر محدوديته، خاصة فيما يتعلق بآثاره، على الحياة اليومية للمواطن المغربي، لأن « اختيارات الدولة في مجال السياسة العامة لابد أن تنعكس على المعيش اليومي للمواطنين المغاربة ».
و يمكن الإشارة الى أن عددا من التقارير الدولية، بدأت منذ مدة تتحدث عن محدودية النموذج التنموي المغربي المعتمد حاليا، ومنها الدراسة الأخيرة التي أنجزها البنك الدولي، ثم الدراسة التي أنجزها البنك الإفريقي للتنمية حول معيقات التنمية بالمغرب، فضلا عن التقرير السنوي الأخير لبنك المغرب، حيث اشار هذا الأخير في مقدمته على مسألة المحدودية التي يعرفها النموذج التنموي المغربي ، و أكد على ضرورة مراجعته، إضافة إلى السياق الدولي الراهن المضطرب ، حيث أن عددا من الدول المتقدمة أصبح مسؤولوها يقحمون في خطاباتهم السياسية ، مسألة مراجعة النموذج التنموي كفرنسا واليونان. مثلا
أن النموذج التنموي المنشود، يرتبط بجيل من الإصلاحات تتطلب بالضرورة جيلا جديدا من النخب الحكومية، والإدارية والبرلمانية وممثلي الجماعات الترابية الكفيلة برفع التحديات التي تضع المملكة على أعتاب مرحلة سياسية وتنموية جديدة.
النموذج التنموي المغربي القائم حاليا، مختلف عن النموذج التنموي للست سنوات الأولى للاستقلال، كما انه مختلف بالقدر نفسه عن نموذج » اجماع واشنطن » الذي تستلهمه مشاريع الإصلاحات الهيكلية. تتمثل في هيمنة دور الدولة في مجالات الاستثمار العمومي، وتقنين السياسات الاقتصادية ولاجتماعية، مع بعض الانفتاح على الاقتصاد الليبرالي، وعلى نوع من الاندماج في العولمة و نموذج حكامة يفترض انها تتطلب، على الأقل حسب منطوق نصوص القانون، مؤسسات للتداول والتنفيذ والمراقبة. و قد كان الأداء الاقتصادي لهذا النموذج في بداية عقد الألفية جيدا، نظرا إلى الظرفية الدولية المواتية، وإلى تحكم جيد نسبيا في الميزانية و مصداقية السياسة النقدية، جنبا الى جنب مع إصلاحات هيكلية و إطار مؤسساتي مستقر. وحين جاء اختبار الأزمة الدولية، ظل الاقتصاد الوطني صامدا في مرحلة أولى امام الصدمات الاقتصادية و المالية، قبل ان تبدأ نقاط هشاشته تفصح عن نفسها بشكل تدريجي. ونتيجة نموذج اقتصادي منهك، عرف الاقتصاد الوطني نموا حيويا خلال بضع سنوات دون أن يسمح له رغم ذلك بتصحيح اختلالاته الداخلية والخارجية بشكل مستدام.
إن « فشل » النموذج الحالي هو « تحصيل حاصل » لعدة تراكمات،
إن النموذج المعتمد حاليا « يعول على الاقتصاد الحر والاستثمار بينما لا يوفر الشروط الأساسية لذلك كالإصلاح المؤسساتي والشفافية ومحاربة الرشوة وتبسيط المساطر الإدارية، إذ مازال يعاني من معدلات الأمية العالية كما أن مُخرجات المدرسة الوطنية ضعيفة جدا بمعنى أن الرأسمال البشري ضعيف » ينضاف إلى ذلك أن « المغرب لم يذهب بعيدا على مستوى الدمقرطة والحقوق والحريات ».
في الماضي لم نسمع في أدبيات التنمية بالنموذج التنموي وإنما كان المغرب يعمل بالمخططات والتصاميم الخماسية والثلاثية كما أخذ في العقد الأخير بالاستراتيجيات القطاعية في السياحة (رؤية 2030 )
والتعليم (الاستراتيجية)والصيد البحري (أليوتيس)والفلاحة (المغرب الأخضر)والأوراش الكبرى مثل كهربة العالم القروي وفك العزلة عن البوادي والتزويد بالماء الشروب والموازنات السنوية في حين يمتد النموذج إلى 10 أو 15 سنة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية البرامج الحكومية ( التصريح الحكومي) ولم تصدر أية وثيقة في هذا الاتجاه باستثناء تقرير الخمسينية ولم تكون أي لجنة على هذا المستوى باستثناء خلية للتفكير كونها الحسن الثاني للعمل بجانبه ولم يكن لمصطلح النموذج التنموي انتشار في عالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع. وحتى الأحزاب السياسية كانت توظف مصطلحات أخرى للتعبير عن البدائل التنموية كشعارات وبرامج انتخابية أو من أجل تعاقد سياسي واقتصادي واجتماعي جديد ومن أجل نفس ديمقراطي جديد ومن أجل جيل جديد من الإصلاحات.
ويمكن للجنة التي عينها الملك من كفاءات متعددة ومختلفة الاختصاصات أن تقوم بالتشخيصات للاختلالات التنموية والبحث عن الوصفات للعلاج من أجل مواجهة المعضلات والمشاكل التي تنخر البلاد في مختلف المجالات وعلى مختلف المستويات وبدون شك ستنجح في مهامها إن هي عملت بطريقة تشاركية مع جميع الفاعلين من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني.
وهذا لن يثنينا عن تقديم بعض الاقتراحات التي تتواتر هنا وهناك في أدبيات المهتمين بمجال التنمية من فاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين وهي على سبيل المثال لا الحصر:
ـ تعبئة الإمكانات المالية اللازمة لفائدة تنمية العالم القروي والجبلي أي المغرب العميق ودعم الفلاحين الصغار والاستغلاليات المتوسطة، والتشجيع على خلق أو الانضمام إلى التعاونيات، وتحفيز وتكثيفُ عملياتِ تحويلِ المواد الفلاحية، عبر إنشاءِ وحداتٍ صناعيةٍ في المجال القروي
ـ توسيع الوعاء الضريبي، وتنظيم القطاع غير المنطم للمساهمة في المداخيل الضريبية والجبائية ومحاربة الغش والتملص الضريبيين، والتفعيل الصارم لمبدأ المساواة أمام التحملات العمومية، واعتماد نظام جبائي بديل يقوم على مبادئ التضامن بين الفئات والطبقات والأجيال والمجالات.
ـ إحداث القطيعة مع المقاربة الضبطية التي تؤطر التقطيعات الإدارية والتقسيمات الترابية، وإحلال المقاربة التنموية بشكل حاسم، وتعميم الاقتراع العام المباشر في انتخاب جميع رؤساء الجماعات المحلية والإقليمية والجهوية وفرض شروط انتفاء الهئات التمثيلية بحد أدنى من التعليم والمعرفة و بلورة إصلاحٍ عميق للتنظيم الترابي للدولة للحد من ازدواجية وغموض المسؤوليتين السياسية والإدارية، وإعادة النظر في العلاقة القائمة بين اللامركزية واللاتمركز.
ـ وضع مسألة التشغيل في صلب السياسات العمومية، بلاعتماد على مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والمالية والنقدية والمؤسساتية، كما تأخذ بعين الاعتبار مختلف أنواع الخصاص في مجال الشغل والفئات المستهدفة، خاصة المرأة والشباب وحاملي الشهادا ت وتوسيع عروض الشغل لتشمل كل الفئات وكل الجهات و توسيع التغطية الترابية لتشمل المراكز الحضرية بالإضافة إلى إنشاء وكالات متنقلة للتشغيل لتقريبها من العالم القروي، وذلك لتقليص الفوارق الجغرافية بين الأقاليم والجهات في التشغيل،
-ـ دعم مختلف البرامج والمبادرات الرامية إلـى دعم برامج التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي، والحرص على إعادة النظر في المناهج والبرامج و الأطر المرجعية المعتمدة وكذا في مختلف الشعب و التخصصات القائمة لجعلها تنسجم وحاجيات المقاولات والقطاع العام، دون إغفال إعادة الاعتبار للمدرس(ة) ماديا و معنويا باعتباره الآلية المحركة لعجلة الإصــلاح
ـ إحداث نقلة نوعية في مجال الاستثمار ودعم القطاع الإنتاجي الوطني” وإصدار “ميثاق اللاتمركز الإداري” بشكل يتيــح للمسؤولين والفاعلين المحليين اتخــاذ القرارات وتنفيذ برامج التنمية الاقتصاديـــة و الاجتماعية، والتعجيل بإخراج “الميثاق الجديد للاستثمار” و”تفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمــار” و تمكينها من الصلاحيات للقيام بالمهام المنوطة بها،
ـ إعادة الاعتبار لقطاع الصحة عبر سد الخصاص على مستوى الموارد البشرية وتقريب الخدمات الصحية من المواطنين والمواطنات من خلال تحسين وضعية المؤسسات الاستشفائية القائمة على مستوى البنيات و الاستقبالات و الخدمات والاعتناء بأقسام المستعجلات وتزويدها بما يكفي من الموارد البشرية، والتفكير في بناء مستشفى جامعي بمواصفات دولية في كل جهة تدعيما لصحة القرب وتحقيقا للعدالة المجالية في المجال الصحي، دون إغفال الاعتناء بالعالم القروي الذي يعاني الأمرين على المستوى الصحي وإعادة النظر في نظام التغطية الصحية (راميد) وتصحيح ما يواجهه من اختلالات مالية وإدارية في إطار رؤية إصلاحية شمولية للمنظومة الصحية ككل، بالإضافة إلى تفعيل مبادرة “السجل الاجتماعي الموحد” قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة، مع إيــلاء عناية خاصة لدور العجزة و الأطفال في وضعية صعبة في إطار مقاربة تشاركية مع الجمعيات التي تنشط في المجـــال.
ـ تحقيق الأمن و القضاء: لأنهما وجهان لعملة واحدة، وهما القناة الوحيدة لتحقيق العدل والإنصاف و المساواة أمام القانون و تدعيم الحقوق و الحريات و محاربة الفســـاد والجريمة بمختلف أنواعها وتجلياتها، فكلما تحقق الأمن وبرز القضاء كسلطة مستقلة وعادلة ومنصفة، كلما تقوت الثقة في المؤسسات والقوانين، وكلما تنوعت فرص جذب الاستثمار الأجنبي على أن بتم التسريع بالأجكام والعمل بالمحاكم الإلكترونية.
ـ المحافظة على البيئة وحماية التراث إذ لم تعد قضايا التنمية مرتبطة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية و البشرية، بل امتد نطاقها لترتبط بالبيئــــــة التي أضحت هاجســـا يؤرق الدول و الحكومات في ظل التغيرات المناخية المقلقة و الضغط البشري و الاقتصادي على الموارد الطبيعية (ماء، تربة، غابة، معادن، ثروات سمكية..) التي بدونهــا لا يمكن خلق الثروة و إدراك التنمية البشريـــة، وذلك في إطار رؤيــة شاملة للتنمية تتـــأسس على الأبعاد الاقتصادية و الاجتماعية و البشرية والبيئية (التنمية المستدامة)، لذلك لابد أن تحضر القضية البيئيــة في المشروع التنموي المرتقب من خــــلال الحرص على الموارد الطبيعية وتثمينهــا و اتخــاذ جميع الإجراءات والتدابير الكفيلـــة بصيانتها و حمايتها خدمة للأجيال الحالية و ضمانا و صونا لحاجيات الأجيال القادمة، ونفس الاهتمام لا بد أن يحضى به التراث بشقيه “المادي” و “اللامادي” الذي يشكل حفظا للذاكرة الجماعية و صونا للهوية الوطنية، وهذا يتطلب وضع القضية التراثية في صلب المشاريع والمخططات التنموية، كآليــــة ينبغي استثمارها لخلق التـــــــروة وفرص الشغل و تعزيز التنمية الجهويــة .
ـ تحقيق النزاهة و الشفافية بشكل أساسي لضمان الإصلاح المرتقب، عبر إتاحة المعلومة ووضعها تحت تصرف الجمهور وتفعيل مختلف مؤسسات وهيئات الحكامة والمحافظة على المال العام كالمجلس الأعلى للحسابات ومجلس المنافسة و الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة، وهذه المؤسسات لابد وأن تضطلع بمهامها واختصاصاتها الدستورية ومسؤولياتها الوطنية في تحقيق شروط النزاهة و الشفافية ومحاربة كل أشكال الريع واستغلال النفوذ ونهب المال العام، وهذا سيساعد على تجويد مناخ المال والأعمــال وجذب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز الاستثمارات الوطنية، وبالتالي تحسين صورة المغرب على مستوى بعض المؤشرات الدولية ومنها على الخصوص “مؤشر مدركات الفساد” و” مؤشر الازدهار العالمي”،كما أن الانخراط الفعلي والصريح في سياسة مكافحة الفساد بكل تعبيراته من شأنه أن يطهر الحياة السياسية من الفاسدين والوصوليين والانتهازيين الذين يجرون خلف الكراسي والمناصب على حساب مصالح الوطن و المواطنين وإعادة ثقة المواطن في السياسة والأحزاب السياسية والانتخابات والديمقراطية وغيرها وتقوية الإحساس بالمواطنة والانتماء إلى الوطن، فضلا عن ما لذلك من انعكاسات إيجابيـــة على “الناتج الداخلي الخام” و “الدخل الفردي” .
وفي الختام لا بد من إقرارالالتقائية في السياسات العمومية تتقاطع فيها المؤشرات الاقتصادية (الناتج الداخلي، الخام، نوع وبنية الاقتصاد ..) والاجتماعية (نسبة الفقر، نسبة الأمية، المساواة بين الجنسين، التأطير الطبي ..) والسياسية (تطور الديمقراطية، مستوى حقوق الانسان والحريات..) والتعليمية (نسبة تعليم الكبار(15 سنة فأكثر)، نسبة التمدرس(أقل من 15 سنة) ..) والبيئيــة (التنمية المستدامة، ضرورة مراعاة البعد البيئي في برامج ومخططات التنمية ..) …إلخ، لكن يربط بينها “خيط رفيع” ويتعلق الأمر بمحاربة الفســاد وتفعيل آليات المحاسبة والعقــاب، و من الضروري استحضار هذه المؤشرات في الرؤى و التصورات التي ستتحكم في مشروع “النموذج التنموي” المرتقب، من أجل إقلاع تنمــــوي حقيقي وجدي قادر على تجاوز مختلف المعضلات التي يعاني منها المغرب على جميـــع المستويات .