هوية من تراب وندى ..
د. سعيد ألعنزي تاشفين
ينبض القلب ويصرخ المدى، يتوضّأ بالأسئلة العجاف وينتبه، ثم خلسة لا يأبه بالحجب العنيدة، إنه وصل القوافل وعطر الشذرات ونكهة الأويقات. في زمان ما كنت كاتبا أبيع القرنفل بسوق حروفي وأقتني من المرهفين مشاعرهم و|أمضي إلى حال صمتي، وكان السابلة يروون ظمأ الدروب. في زمن كانت الكناية نكاية والاستعارة استعارة و الحرف حرفَا، والمطر كان رحيما، والحقول كانت تعبّد المنافد لعبور العشاق نحو زوايا العناق الرحيم ، والأسئلة النازفة في تفاصيل العشق تقرع نافذتي، وكان جرح الليل ما زال ينزف، وللماء ألف فضيلة تتوشّح طهر الموصولين، وكانت الأوزار تسقط كدمامل لا تترك وسما، والسجايا مرايا، وفيوض الأسحار تغرق الأشياء كلها بمواسم المفقودين بوغى النبض، والأسحار لها حسّ ملائكي واجف، واليقين يصرع الفجيعة كل يوم ألف مرة؛ وينادي فيها القلب كف العشق رسوخ رسوخ ..
ينسل الفجر على شرف شذرتي من دهن المدى قُبلة للوشائج، يرتّب فوضى الخاطر انتباها لمجد الحيارى، ثم يزقزق كعصافير الفلق الرحيم إيذانا بقدوم الصّحو الأنيق، والبلدة تنسج مشجب العهد القديم وترمّم أواصر الطيبين المنسيين خلف صفحات التاريخ و الحقائق طفقت تغزل غيما و تنسج حلما وتروي وجعا وتسكب نبضا جديدا في فلوات الأشياء الصغيرة التي تملكني وتتنزى بالوجع المتجدد كسديم الديار .
وهذه البلدة يا أيتها المضاءة ليلا بذكرى الذين رحلوا، أيتها الرحيمة رغم زخم الخيانات؛ علميني أغرف أنفاسك كل حين وأطرق باب نسائمك علميني يا بلدة الله كيف أرتّب في تفاصيلك العميقة ضحك الصغيرات وحزن الكمانجات، يا بلدة تذكرني بالمدرسة المتهالكة وغضب المعلمين وغبار الطباشير وهو يموت في مخاض الكلمات، وأنت كالمذياع القديم عندما يقدّم وصلة من أغنية تقاوم النسيان و تذكّر المحبّين شغفا بحبّهم الأول، وكهمزة وصل بين حزن وحزن على مقربة من خراب الأسوار و من تعب القلوب ، و الجفاء فيك حصية تشبه تفل بخاطر المغزى عطشا بمنابع الأطلال، والليل مغتسل للروح الوضيئة وللأحزان التي تجيء خجولة من نفسها، والسّهر يرتب خاطر الوحل والنّدى وهو يغتال تفاصيل الليل الطويل، بينما الشمس تجدل قلب الضّحى كعرس المطر لانهمار متسلّل من مجد التراب، والتوسّلات من رحم السّحر يخرجن من جبّ الغيب نشيدا يدغدغ خواطر الغرقى و يكتبن غفوة الحياة الرحيمة على جِباه المنسيّين على قارعة الدرب، ويرتّبن حماس الحقول بألف زهرة وألف ضحكة وألف انتباه جديد على شرف العاشقين .
ثم أرتمي بين أطلال لم ينساها شعراء، مروا من هنا وهناك.. كتذكار يوشح مطالع الأغنيات القديمة:
قِفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ // بسقط اللّوى بين الدّخولِ وحَوْمَلِ
