همسة الذاكرة وبَركة التخييل في همسة البركة لإدريس خيدوس
محمد الدهبي
همسة البركة تخيل عميق ينبش في ذاكرة بعيدة قريبة من الزمن، عبر محطات زمنية متنوعة تنتقل عبر قطار سريع، تصعد إليه متواليات سردية وتنزل لتترك المكان للأخرى، حيث تتكلم في هذه الرحلة عبر ذاكرة جريحة، تحاول إخراج شخصية سعيد المتأرجحة بين غيبوبة الإحساس بالضياع و بين الحضور الذاتي، في فضاء الأمكنة المتنوعة والسياق الزمني المتغير، إلى وجود ديكارتي.
وعليه، فنص همسة البركة تعامل مع الأمكنة بحميمية عميقة، خصيصا وأنه محبوك بهمسة خافتة في أذن شخصية سعيد، وكأن السارد أمام مرآة ينظر إلى الشخصية المتكررة في مرآة خلفية، تعيد بذلك سرد حكاية مؤطرة زمكانية وفق متواليات سردية، تتكئ على الذاكرة في سرد أحداثها، بالمتا-حكي، بين همس ونفس وسرد وحس وبركة، إذ السارد يتمتع بذاكرة تنبش حاضرها بين أرفود وكلية الآداب ولعلوم الإنسانية بمكناسة الزيتون والحاجب والثكنة العسكرية بالقنيطرة والرباط…
وهذه الحميمية للأمكنة، عنصر رئيس للذاكرة في بناء أحداث العمل وتشكيله الجمالي بالزخارف والصور السردية القوية الدلالة، ذات أبنية فنية، تتوالم والكتابة السردية بخصيصاتها الفنية وقواعدها السردية، وفق أسلوب لغوي متنوع، بضمائر مختلفة تمزج بين الغائب والمتكلم؛ من حيث البطلُ سعيد والشخصيات المتواترة والفضاءات المتنوعة والأزمنة المتعددة، علاوة على ذلك حَبْك قصة سعيد بوضعية بدئية، تتسم بوصف مرحلة لحظة الولادة والطفولة بتكثيف دقيق، لتنتقل إلى التحولات في الأحداث بحدث مفاجئ يغير مجرى الحكي وتجلى في همسة الشيخ للسعيد؛ يقول السارد:
« وفي يــوم مــن الأيــام، وهــو جالــس يقــرأ القــرآن كعادتــه في المســجد، فاجــأه أحــد دراويــش الحــارة الحبيبــة، وكان متقاعــدا في الجيــش، وحريصــا على الصــلاة في وقتهــا، ولــم تكــن تجمعــه معــه علاقــة وطيــدة، فقــال لــه كلمــات ظاهرهــا مــن قبلهــا العــذاب، وباطنهــا فيهــا الرحمــة : «أولــد ســي محمــد نــوض تخــدم على راســك» فإن الســماء لا تمطــر ذهبــا ولا فضــة، وأنــت في وقــت العمــل والعطــاء، فلمــاذا تبخــل على نفســك؟… وذكــره بمــا فعلــه ســيدنا عمــر رضــي الله عنــه بالعاطليــن في المســجد، وكأنــه يســمعها لأول مــرة »، ص 25.
والذي سيجعل من هذا الهمس عقدة لتطور الأحداث، ومن ثم تتطور بين فضاءات مختلفة وأحداث متغيرة دون نتيجة تذكر، وهذا ما نعتقد أنه قد يأتي في جزء لاحق لهمسة البركة، وهنا تحول العمل من عمل بسيط لا عمق فيه إلى أبنية سردية ذات مقومات تشويقية بأحداث وهمسات وبركات للمتلقي « القارئ »، وكأن السارد جالس مع المؤلف في مائدة الحكي يخاطبه بملفوظات حكائية، تنسجم في ملفوظ حكائي ذي أبعاد ثلاثية، وفق السحب تأنيا في الوقت نفسه وفي هذه الحالات التي يستخدم فيها علاقات التأليف، بين المتواليات السردية بشكل رياضي لصندوق يضم تخيل وقائع الواقع لكرات الحكي من خلال أبعاده الزمكانية، التي تجعل من شخصية همسة البركة سعيد كائناً اجتماعيا إنسانيا كونياً يسبح في معاناة، سيابية، داخل الحياة، بواقع الواقع والواقع الواقع، الذي ترصعه حفريات الذاكرة بين أرفود والرباط والكلية والقنيطرة، فيجد نفسه بين ثلاث طرق مختلفة في سحب الوقائع من صندوق الذاكرة، تأنيا، أو بالتتابع وبدون إرجاع أو بالتتابع وبإرجاع.
ومن ثم، فذاكرة السارد في همسة البركة في هذا الجزء، تحتوي على تسعة مقاطع سردية تبتدئ بـ « مولود جديد » و »مرحلة الطفولة » و »مرحلة الشباب » و »المشوار الدراسي وهاجس المستقبل » و »مرحلة التيه والرجوع إلى الله » و »همسة البركة السحرية » و »مفعول البركة » و »نقطة التحول ».
وعلى هذا الأساس، فإن النص، الحدث، عرض همسة البركة وفق خطية زمنية مؤسسة على فكرة مُفادها بناء معرفة بنائية، قابلة للانشطار في الحكاية نفسها لتشكل منطلقا للتأويل عما تقوله عن شخصية سعيد وكأننا أمام أحداث ثلاثة:
⮚ الحدث ـ أـ من: « مولود جديد » و »مرحلة الطفولة » ومرحلة الشباب ».
⮚ الحدث ـ ب ـ من: « نهاية المشوار الدراسي وهاجس المستقبل » و »مرحلة التيه والرجوع إلى الله ».
⮚ الحدث ـ ج ـ من: « همسة البركة السحرية » و »مفعول همسة البركة » ونقطة التغيير ».
يتبن أن السارد انطلق في هذه الأحداث وتنظيمها وفق منطق من النص إلى الدلالة، الذي يبحث فيما تقوله حكاية سعيد من أحداث، لأن النص هو الحدث، والشخصية، في وعي بالذات، التي يدرك من خلالها السارد شخصية سعيد والتي بدورها تدرك أنها تبحث عن ذاتها في ذاتها، لأنها تعيش انشطارا وعجزا تاما بين معاناة الواقع واقع الواقع، بحثا عن ذاتها داخل ذاتها، وبالدفاع عنها أمام نفسها في لحظة الرجوع إلى الله، يقول السارد:
» كانــت صدمــة قويــة بالنســبة لســعيد، الــذي حــاول أن يتأقلــم مــع هــذا الوضــع الجديــد المحــزن، وأن يطــوي صفحــة هاتــه الفتــرة البئيســة، التــي ظلــت كابوســا مزعجا يطــارده.. رجــع إلــى أســرته، وهــو يجــر أذيــال الخيبــة، والفشــل، حيــث لــم يتحمــل صدمــة الإعفــاء، وألــم الفــراق، فــراق الأصدقــاء والأحبــة، في هاتــه التجربــة الجديــدة الغيــر متوقعــة، والتــي علمتــه الانضبــاط والاســتيقاظ باكــرا، واحتــرام مــن هــو أعلى منــه رتبــة… كان ســعيد يعتبــر الأمــر جســر نجــاة، قــد ينقلــه فيمــا بعــد مــن براثيــن البطالــة، إلــى إثبــات الــذات، لكــن تجــري الريــاح بمــا لا تشــتهيه الأنفــس، وعــوض أن يطــوي ســعيد صفحــة الحلــم، الــذي طالمــا تمنــاه، وتحقــق لــه، ويقبــل قضــاء الله وقــدره تــاه في بحــر اليــأس والقنــوط، واجتهــد في أن يمــأ أوقــات فراغــه بالقــراءة النافعــة، ليدفــع عــن نفســه كل الأفــكار الســلبية…. ولــم يخرجــه مــن دوامتــه ســوى اللجــوء إلــى الله، والتضــرع إليــه في وقــت الســحر والنــاس نيــام ». ص، 24.
وهذا ما أدى بشخصية سعيد إلى الخروج من هذا التيه في لحظة الاعتراف والعودة إلى محراب التضرع في أوقات الأسحار، وكأنه يتصالح مع ذاته، من أجل الخروج من عتمة التيه إلى نور الحقيقة في همسة البركة السحرية، وليعيش في جلباب النور ويتخذ لنفسه مكانا روحانيا لذاته في زاوية داخل المسجد، لذلك يؤسس لحياة روحانية بذاكرة خصبة تبني لحظة وجودية اسمها « البركة الصاعقة »، يقول السارد:
« كانــت كلمــات البركــة كالصاعقــة، خــرج بعدهــا ســعيد مــن المســجد وهــو في حالــة يرثــى لهــا، مكســور الخاطــر، تائــه العقــل، حائــر القلــب، وكأنــه أيقظــه مــن كابــوس صامــت قاتــل، ووضــع أصبعــه على الشــقاوة التــي يتخبــط في غســقها المظلــم، فبــدأ يرقــب أمــل الخــروج مــن الدائــرة المغلقــة، بعدمــا قاســى مــن نكــد وهــم وغــم… أدرك ســعيد أن طريــق اليــأس والاستســلام، والركــود والاســتكانة لــن تجلــب لــه ســوى الأحــزان والــذل والهــوان، فبــدأ رحلــة البحــث عــن الــذات، وكلمــات البركــة تتــردد بداخلــه كالصــدى ». ص، 26.
فهو الآن يقف وجها لوجه مع ذاته قبل الغير في مواجهة الذاكرة، لأنه ينبش في ذاكرته، وفي ذاكرة من عايشهم وعايشوه، كي يتعمق في مفعول البركة وتقديره للذات التي قدمت له الإرشاد والنصح بهمسة عميقة، جارحة، منبهة، موقظة من الغفلة والتيه، ومن ثم تكون نقطة تحول وتغيير لذات سعيد، في رسم حياة جديدة وتشكيلها في اختيار الطريق الذي يتشبث بحلم نشأ منذ وضع القلم بين أنامله من لدن أمه واستبشارها به فرحا، يقول السارد:
« إذ وضعــت بيــن أنامــل الصغيــر قلمــا ورفعــت كفيهــا إلــى الســماء متضرعــة إلــى الله قائلــة: إلهــي وخالقــي إنــي أســتودعك ولــدي وفلــدة كبــدي، اللهــم كــن لــه وليــا ونصيــرا واحرســه بعينــك التــي لا تنــام. ثــم نظــرت إلــى المولــود نظــرة تفيــض حبــا وحنانــا… لقــد استبشــرت فيــه خيــرا وكأنهــا تــرى مــن خــلال عينيــه أمانــي جميلــة وأحلامــا ورديــة » ص 11.
يطفح عمل همسة البركة تكثيف حكائي ينفتح على كثافة في الدلالة، كي تصبح شخصية سعيد رمزا للتحدي والأمل، محملا بذاكرة المناضل الجريحة وبذاكرة التائب وبتاريخ نضالي مرير، فالذاكرة، استرجاع لزمن ماض بوصفه أداة للحاضر وسيلة لتجلياته الحياتية وبابا للمستقبل وآفاقه، تظهر برؤيا ووعي، يهتمان بالحضور الفعلي للذات في حاضرها التي تستمد قوتها من ماضيها البئيس والمتطلعة لمستقبل كله بركة وحياة.
وعلى هذا الأساس، تبدو عملية التذكر مرآة تنظر إلى المستقبل بالحاضر والمستقبل بالحاضر، وفق انشطار ذات سعيد إلى ذاتين؛ ذات سعيد البئيسة، في الماضي وسعيد السعد في الحاضر، وسعيد السعيد في المستقبل، حيث ترسم هذه الشخصية جسرا للعبور نحو مستقبل وزمن آخر؛ زمن المستقبل بالخلاص من التيه والوقوف على القمة في مواجهة قدره ومصيره ورسم لنفسه بروتيريها للرجل المناضل والمثقف والمقاوم للواقع المرير والذات الممزقة، فقد اختار لنفسه الحلم قنطرة تنقله من الحاضر إلى المستقبل دون تهاون أو انحطاط أو خمول بل بالتحدي والعبور.
فالسارد يرسم لشخصية سعيد هوية ترسمها شخصية سعيد لنفسها، انطلاقا من ذاتها، بوعي للذات وللواقع، وبمسار جديد لمواجهة الحياة من داخل الذات، فاختارت شخصية سعيد لذلك، برحلة البحث عن هذه الذات الضائعة بين مسالك الحياة والاغتراب، إلى فضاء تمثل نقطة تغير لمسارها الاجتماعي وحياتها الضائعة بين التية وهاجس المستقبل الذي هو الوعي المتقذ بمسالك الدارجين بين إياك نبحث وإياك نجد، بالتغيير والإرادة والعزيمة من أجل تحقيق الأمل وصناعة البصمة ورسم تاريخ جديد للذات؛ تتحدى وتواجه كي تعيش، وتنجز، وتمارس، وتحقق، وتباشر وتقول؛ يقول السارد:
« والرغبــة في التغييــر، قــرر ســعيد أن يبحــث عــن طــرق لاســتثمار مؤهلاتــه، وإيجــاد العمــل الــذي يليــق بــه…. فكــر في مهنــة التدريــس التــي حــاول مــرارا وتكــرارا ولوجهــا دون جــدوى وكأن القــدر يقول لــه حتــى تمر مــن تجــارب متنوعــة، وتســتفيد مــن مهارات كثيــرة، وتكتســب كفايــات عديــدة، وخاصــة تجربــة الأمــن الخــاص، التــي علمتــه الصبــر والالتــزام والثبــات والعزيمــة والإرادة وكل مــا تحتاجــه مهنــة الرســل. اســتطاع ســعيد الحصــول على دبلــوم لمهــن التدريس،
واســتغل عطلتــه الســنوية ليقــوم بالتدريــب وتطبيــق مــا اســتنفاذه نظريــا، وبــدأت التجربــة في ســلك التعليــم الذي وجــد فيــه ضالتــه. » ص، ص، 36، 37.
وعليه، تراهن همسة البركة على كشف سيرورة ذاكرة جريحة بمرارة العيش والضياع والاغتراب بين أحضان الزمن وأفضية المكان، من خلال التأمل العميق في الذات وفي مجاري الحياة ومصب الانتظار وأفق المستقبل بحاضر الواقع وواقع الماضي، وبرؤية جدلية قائمة على الكوجيطو الديكارتي للذات وقدرتها على تحقيق ذاتها بوصفها بديلا عن تلك الذاكرة الجريحة، تقود المتلقي القارئ نحو كشف الهمس ومعرفة القول ومقوله لإيجاد تلك المعاني والدلالات المختفية وراء همس البركة بوصفها خطابا، يخاطب الروح قبل الذات، بمعرفة حقيقية للواقع وواقعه.
تأسيسا على ذلك، فإن الوجود في الواقع، يحتم حضور الذات بشكل جلى، يجعل من المؤلف يتوارى وراء السارد والسارد وراء الشخصية، وهذا ما جاء به عمل همس البركة في التعبير عن صراع الذات وذاتها في زمكان يحتم على الذاكرة أن تكون ينبوعا لوقائع الأحداث، يحاول فيها سعيد لمَّ جراح الماضي المادي والمعنوي والقضاء على المأساة والاغتراب والتمزق الداخلي، كذا الاندماج في واقع الحاضر برؤية مستقبلية، تجعل من همسة البركة تحمل في طياتها بعدا اجتماعيا وثقافة الإنسان الشغوف إلى ما هو أفضل بعزة نفس وأنفة.
وتبعا لذلك تظل الذاكرة والعودة إلى النبش فيها نقدا ذاتيا للذات، تضمد جراح الذاكرة الجريحة بعمق روحي ورؤية واسعة للواقع والانتماء إلى الذات، والانفتاح على المستقبل بحرية تلقائية وفرح إنساني يغذي الروح المتعطشة لواقع أفضل بهمس وبركات، وتجنب الإنسان الحياة البئيسة والتراجيديا والصراع النفسي والذاتي والتمزق بين الماضي والحاضر والواقع ورهانات المستقبل…
ويمكننا القول في الأخير إن « همسة البركة »، كانت مغامرة إبداعية سردية وأسلوبية، حققت رهان المغامرة الكتابية، بأدوات فنية وأساليب سردية متنوعة، حيث احتفت بالذاكرة، وخطت لها خرائط عميقة بالتحدي والرقي والعزة، كان فيها إدريس خيدوس مبدعا عميقا في نبش الذاكرة، وتشكيل عمل أدبي بكتابة فنية وأسلوب رصين وبرؤيا نقدية لواقع الواقع.