المذابح الصامتة لحزب التقدم والاشتراكية
فؤاد الجعيدي
(أسباب النزول لهذا السرد التاريخي: يوم أن بلغ لبعض المهووسين أن الرفيق أنس الدكالي زار بيتي في لمة رفاقية، اشتغلت الخطوط الهاتفية الساخنة، وتحول البعض إلى نظام السخرة عمن يأتيهم بالخبر اليقين، أسباب اللقاء ودوافعه وأهدافه في هذا الظرف بالذات. ومنهم من تكلف بالاتصال ببعض الرفاق وتحذيرهم من الاتصال بالمدعو فؤاد الجعيدي. والله ما تمنيت أن تدركني الحياة لأرى فيها رفاقا وقد تحولوا إلى مخبرين في زمن اتسعت فيه الحريات العامة وفي زمن يطلب فيه من كل المغاربة أن يدلوا بدلوهم، فإذا بالحرس المتمخزن يتحرك ذات الشمال وذات اليمين بحثا في أخبار لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي مثل هذه المواقف الخسيسة تنشط النذالة، لذا قررت أن أفصح عما دار والسؤال العام كان ما الذي حدث وجرى داخل التقدم والاشتراكية، أتوفر اليوم على وثائق على ما أقول وهذه الوثائق صارت اليوم جزءا من تاريخ الحزب وعلينا العودة إليها بالدرس والتحليل واستخراج الخلاصات، ومن جانب آخر لست معني بمن تشككوا ووظفوا لمهام لا تليق بالمناضلين )
تاريخ الحزب الشيوعي المغربي، تاريخ ملئ بالمؤامرات والتزوير الذي قامت به فرنسا الاستعمارية، منذ تأسيس الحزب سنة 1943، وتآمرت عليه قوى وطنية أخرى لعزل الحزب، واتهامه بأن هذا الحزب وفي هذا البلد الإسلامي، يدعو للإلحاد وأن الشيوعيين المغاربة يبيحون العلاقة الرضائية داخل أسرهم وعائلاتهم ويؤسسون لزواج الأخ بأخته، والأخت بأخيها في تحد لنواميس الأخلاق التي جاءت بها الديانات السماوية.
هذه هي الأسلحة التي استعمالها الاستعمار الفرنسي ضد الرفاق، لتقويض إمكانياتهم وهم الذين يراهنون على الرفع من وعي المعارك في صفوف الطبقة العاملة الناشئة، وفي صفوف الفلاحين الفقراء في القرى والمداشر، وكان يزرع في صفوفهم خلايا لمقاومة الاستعمار الفرنسي البغيض.
وكان بعض اليساريين من الفرنسيين أنفسهم، ينقلون الأفكار الماركسية التي وجدت لها في أروبا، الأرضية الخصبة للانتصار إلى قيم العقلانية وتكريم الإنسان والتصدي المباشر للإقطاع، الذي نهضت على أنقاضه فئة من البرجوازية الناشئة والتي وسعت من نفوذها في المستعمرات، ونقلت المعارك الطبقية إلى مستعمراتها، ومنها بلاد المغرب.
لكن هذه الرياح أيضا حملت معها أسس التعبير للطبقة العمالية الناشئة التي احتضنها الفرنسيون وهيمنوا على استقلالية قرارها، بل السلطات الفرنسية حرمت المغاربة من حق الانتماء النقابي، وهو الأمر الذي عجل للشيوعيين المغاربة أن يفكوا الوصاية التنظيمية ويسعون لاستقلال حزبهم وحركتهم النقابية عن فرنسا الاستعمارية.
فالعمل النقابي عرف مع تأسيس الاتحاد العام للنقابات الكونفدرالية بالمغرب بتاريخ : 05 مارس 1944، بداية مغربة العمل النقابي في ظلّ الاحتلال الفرنسي، وتم انتخاب مجموعة من المغاربة في مراكز قيادية داخل هذه النقابة. وقد كان الحزب الشيوعي المغربي، الذي يسيطر على هذه النقابة، يولي أهمية خاصة للنضال النقابي، عكس باقي مكونات الحركة الوطنية التي أهملت النضال النقابي لصالح النضال السياسي. وبميلاد الاتحاد المغربي للشغل بتاريخ 20 مارس 1955: تاريخ تأسيس الاتحاد، الذي يعتبر أول مركزية نقابية مغربية 100٪. فكك الحزب الشيوعي المغربي نقابته ودعا مناضليه للالتحاق بصفوف النقابة الجديدة ذات التوجهات، الوحدوية و المستقلة عن الأحزاب والحكومة.
ربما السؤال المؤرق، لماذا تم التصدي للحزب الشيوعي بقوة وبقبضة من حديد، وروجت عليه اتهامات باطلة، لأنها وبكل بساطة، كانت مذهبا سياسيا واقتصاديا، يهدف إلى تمكين السيطرة الجماعية على وسائل الإنتاج بعد التخلص من مفهوم الملكية الخاصة والمفاهيم المرتبطة بها، حيث جاء هذا النوع من الفكر الاقتصادي، كانقلاب على مفهوم الفكر الرأسمالي الذي يتنافس فيه الأفراد على الأرباح بطريقة تحركها رغبتهم الشديدة في تحقيق مصالحهم، وتحصيل أكبر قدر من الثروة، فيسيطر الأفراد نفسهم في هذا النظام على وسائل الإنتاج الرئيسية مثل المصانع والمناجم والموارد الطبيعية ويديرونها.
وعلى هذه الحقائق انشغلت الفلسفة الاشتراكية بالعمل على ترسيخها في نفوس العمال والكادحين، وبالتالي عرفت مع الثورة البولشفية قيادة لهذا النموذج.
ما يهمني هنا هو الحديث عن الفكر الذي تتبلور اليوم في طياته هذه النظريات وهي النقيض المباشرة لثقافة الرأسمال وتسليع البشر، إنها الثقافة العمالية التي ساهم في إنتاجها الكثير من مناضلي الحزب في صفوف الاتحاد المغربي للشغل من بينهم الراحل الغرباوي، وكان من بين ثمارها تحقيق بعض المكاسب للطبقة العاملة، والتي ظلت المناورات عليها من طرف خصومها كما أعدائها ومحاولة المس بوحدتها واستقلالية قراراتها لأهداف سياسية، بلغت أوجها اليوم لما غدت الأذرع النقابية للأحزاب تعقد الصفقات السياسية ضدا على مصالح الطبقة العاملة ولا تعوزنا الشواهد.
حزب التقدم والاشتراكية لم يكن بمنأى، عن هذه الصراعات، وكم كانت مكلفة في العديد من المحطات للحزب وقادته إلى المنع.
لكن بعد الانفراج الذي أتى في أواسط سنوات السبعين، برز الحزب، كقوة سياسية، قادرة للتأثير في الأحداث، لا سيما مع التجربة البرلمانية التي حملت علي يعته إلى قبة البرلمان، واستأثرت فصاحته الخطابية وبلاغته اللغوية وواقعية تحاليله الموضوعية والتي على المستوى السياسي، كانت تعكس نظرة الحزب للصراع بين الغني والفقير وبين المستفيدين من الاختيارات السياسية والمستضعفين الذين يؤدون سوء نتائجها.
وتعرف المواطنون عبر الشاشة على هذا الحزب الذي روج عنه الكلام الكثير والمغلوط، ولمس الناس أن من بين مناضليه من له إلمام بعلوم الدين وتفاسير القرآن الكريم، وصارت سنة في المداخلات اليعتوية الاستناد لبعض الآيات لإبراز سماحة هذا الدين الاسلامي ومناهضته للمظالم الاجتماعية وأكل مال السحت. وبعد علي انظاف الرفيق اسماعيل العلوي، والذي تم عليه الإجماع في ندوة الثقافة بتارودانت، أنه أدارها بأسلوب ديمقراطي خلاق لم يعرف له مثيلا وقدم خلاصات استوعبت كل ذلك الفسيفساء، الفكري والسياسي الذي اجتمع فيها.
في هذه المرحلة علمنا الحزب، أن أساس وجودنا، هو الدفاع عن الطبقة العاملة، وهي هويتنا إلى جانب كل القوى العاملة من فلاحين صغار ومثقفين متنورين، وكانت جرائد الحزب ومنشوراته البيان ومجلة المبادئ هي الوعاء الذي نصرف فيه القناعات والمواقف.
وفي مراحل أخرى ظلت النواة الصلبة ذات الهوية العمالية، والتي كان يمثلها الرفيق الراحل عبد المجيد الذويب تؤسس لجريدة عالم الشغل ومجلة قضايا تربوية.
لم تكن لترضى عنا البرجوازية الصغيرة واليسار الراديكالي، لأننا كنا حزبا واقعيا، يتعاطى مع واقع معقد من أجل تغييره وهو في هذا التوجه يرى أن التحالف قضية استراتيجية وبالتالي لم ننزلق لمعادات حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ولكن أيضا دون أن ننسلخ عن جلدتنا، كما وقع في أحداث الخليج وقبلها في التصويت بلا على سن بلوغ الأمير ولي العهد وفي التعديل الدستوري لأواسط التسعين حينما صوتنا بنعم، وخضنا معارك لتفسير موقفنا السياسي الايجابي من التعديل وتعرضنا لهجمة قوية من الحلفاء وبها الكثير من الافتراءات والمزايدات.
وككل كائن حي عرف الحزب نقاشات واسعة في سياق طموحه للجماهرية، ففتحت الأبواب والنوافذ وبدا اتجاه يدافع عن قبول أصحاب النفوذ المالي لما لهم من قدرات على ضمان الفوز وتمكين الحزب من حصاد قوة الأصوات للتفاوض بها.
لقد تربينا ضمن قناعات أن الانتخابات لم نكن معنيون بأمرها لاعتبارات متعددة منها سيطرة المال والنفوذ، لكن كنا نعتبرها محطة أساسية في عمليات الصراع الجارية، ونستهدف فيها الوعي الجماهيري بالتأثير ومساعدته على فهم التناقضات وبأن من يشتريه اليوم حتما سيبيعه غدا..
انتقلنا من هذا الرهان إلى آخر يتعلق بتكوين قناعات لدى كل الرفاق أن ماهية الحزب هو الطموح لتدبير الشأن العمومي، وغدا الحزب يكون تراكمات من المساهمة الجادة والخلاقة، في تدبير بعض الجماعات المحلية، والعمل الحزبي وعلى قلتها كان الحزب رائدا ومبدعا لدى الرفاق في التعاطي مع الشؤون الجماعية ( جماعة أنفا وتجربة شمعون وجماعة الرفيق العياشي المسعودي شفاه الله).
لكن في كل نعمة نقمة، هناك من ذاق النعمة في هذا التوجه، وسجلنا أن الكائنات الانتخابية، بدأت تتقاطر على تنظيمات الحزب، كما وقع في سطات حيث صار الطموح الانتخابي هو الهدف وفي سبيله قد تم التحالف مع اليمين وفتحت أبواب التنظيم لليمين وللمرفوضين من اليمين ذاته، وشكلت بهم جبهة لنحر الديمقراطية الداخلية، حيث أصبح الحزب يتجسد في شخص وهذا الشخص هو ذاته الحزب، علما أن هذا الكائن كم تنطع بالرفاق الشباب وكان في السر يعقد الصفقات وهو الأمر الذي بات معلوما لدى كل الفرقاء السياسيين بمدينة سطات وسجل عليه التاريخ أنه في ندوة الفلاحة سطا كالقراصنة على الكلمة وهاجم الأمين العام للحزب ساعتها وأمام الملأ وهو عضو باللجنة المركزية للحزب ولم يحضر اجتماعا واحدا لكنه ظل يتنطع ويزايد بجهود ونضالات الرفاق لكن الأيام كشفت عنه بلغة البدو أنه لم يكن طائرا حرا بل حدية وتأكد ذلك يوم أن قدم زورا إشهادا مكتوبا في المحكمة ضد رفيق قاد الحزب وفي ظروف قاسية إلى أن بلغ إشعاعه في المدينة ثم أقبر الحزب والإشعاع من بات معروف بين الرفاق (مول الحزب). في حين أن الرفيق الذي قاد التنظيم منذ بداية سنوات التسعين وجاء قادما إليها من الدار البيضاء، تم تقليده في أقوى المحطات، بالتفاوض مع الحلفاء على أسس سياسية وإيديولوجية ويضع مصلحة الناس فوق الاعتبار يوم أن كانت المدينة تدين بالولاء المطلق لراحل ادريس البصري، لكن حدث ما حدث. سطات هي البؤرة الشاهدة عما جرى، وابتدأت بإغلاق المقرات( الدروة، السوالم ، ابن أحمد، ونسف فرع برشيد) وامتدت الخيانة إلى الرفاق بالشمال بأنجرة حيث قضى عندهم مول الحزب عطلته الصيفية ثم عمل على توجيههم جملة إلى الاتحاد الاشتراكي، ولما عاد فتح فاه عاليا بأنه والوالي الحضرمي يلتقيان استراتيجيا أمام حشد من الناس ببلدية سطات.
إنها مرحلة، النحر الداخلي أو الانتحار الباطني، لحزب التقدم والاشتراكية. هذه الصورة المجهرية كانت لها أحداث مماثلة لها تجري على الصعيد الوطني.
فيوم أن اتخذ قرار التحالف مع العدالة والتنمية، ظن العديد من الرفاق أنه قرار سياسي لحزب التقدم والاشتراكية، لكن في واقع الأمر وهذا تقدير شخصي وأنا مسؤول عليه، أن الرفيق اسماعيل العلوي من مهد الطريق لهذا الاختيار وأقنع به المقربين منه، وهي البدعة التي تبناها المشاؤون والتابعون والراغبون في نعم المناصب الوزارية .
كانت كل المؤشرات تفيد، أنه تحالف غريب وفي ظروف ظلت محفوفة بالتراجع عن المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة، بفضل كفاحها المستقل داخل نقابة الاتحاد المغربي للشغل.
دبر الحزب وزارات وكل المؤشرات تفيد اليوم، أنه تدبير لم يكن ينسجم مع مواقف الحزب التاريخية وقناعاته السياسية وهويته الطبقية، أما فيما نذر فبعض الرفاق فتحت عليهم جبهات كما وقع للرفيق الوردي بوزارة الصحة العمومية ولم يجد ذرعا حزبيا يحميه من شراسة قوى الضغط المهيمنة على قطاع توزيع الأدوية.
كان على الحزب أن يستخلص الخلاصات من تجربة سعيد السعدي، الذي استوزر باقتراح من خارج الحزب، ثم ظل يزاول مهامه باسم الحزب ولم يستشر الحزب، ولا تنظيماته المحلية والجهوية، في خطته الوطنية حول المرأة، بل قطع ربوعا من البلاد مع الجمعيات النسائية، ولم يكن يدري أنه المحرار الذي يقاس به ضغط الشارع، وبعدها خلد للراحة لما اجتمعت اللجنة الملكية ونصفت النساء .
لكن رفيقنا، ظل في قاعة الانتظار أن ينادى عليه من جديد ليكون رجل مرحلة ما، لكن التاريخ لم ولن يسعفه للقيام بما استعصى عليه. في الواقع ومنذ زمن بعيد كانت كل المؤشرات تؤكد أن هذا الرفيق ذو ربطة العنق، ليس سوى ذاك البرجوازي الصغير الذي له طموحات بحجم التلاقي مع المسؤولين السامين والاشتغال بالمقابل كما كان يفعل مع جريدة لومتان، أيام مولاي أحمد العلوي وبعدها مع بليوط بوشنتوف، وكان فخورا بتلك العلاقات التي جرت عليه الحرمان من تمثيلية الحزب بستكهولم يوم أن رد له علي يعته جواز سفره، وأخبره بأنه غير صالح لتلك المهمة، بإيعاز من الرفاق يوم كانت لتنظيمات الحزب القاعدية مصداقيتها في الحسم في الاقتراحات وقراراتها.
يتبع، إلى حكي آخر.