تارودانت عبر التاريخ
محاولة فهم الصراع السياسي بقناع المذاهب الدينية واترها على التجارة والحرف
علال بنور
تعتبر مدينة تارودانت من المدن التاريخية المغربية، ومن بين المدن التي تتوطن منطقة سوس الغنية بمجالها الفلاحي والتجاري واتارها التاريخية، بقصبتها ودار البارود واسوارها واسواقها التي من معروضاتها الحرف الجلدية، ومن السكان الذين صادفناهم بأسئلتنا يسمون المدينة بمراكش الصغيرة. الشيء الذي حرك فضولنا اثناء زيارتنا لها للنبش في تاريخها، فتوصلنا الى ان المدينة، مر على حكمها الدول التي مرت من المغرب، فتوقف بحثنا عند الدولة العلوية. مرورا من الادارسة والمرابطين والموحدين والمرنيين والسعديين.
فمن المعطيات التي حصلنا عليها ،ان سكان المدينة حسب الإحصاء الرسمي لسنة 2014 كان 80.000 نسمة ،اما من حيث الاسم ، اختلف المؤرخون في اصل التسمية ومعهم الرواية الشفاهية .هناك من يعتبر ان المدينة تعرضت لفيضانات تسببت في خسائر مادية وبشرية ،فعند فقدان امرأة أبنائها من جراء الفيضان ،صاحت باللغة الامازيغية (تارو دان) معناها الأبناء ذهبوا ،يؤكد بعض الاخباريين ،مع كثرت تداول الكلمتان اندمجتا في النطق فأصبحت ( تارودانت) ،وما يدعم هذه الفرضية ،ان المدينة محاطة بوادين ،وادي سوس و وادي الواعر، وهكذا ترسخت الرواية الشفاهية في الذاكرة الشعبية الامازيغية عبر أجيال .
وهناك روايات أخرى، ترجع الى تفسير اسم تارودانت انه يعتمد على الموضع الجغرافي، بحكم وجود سهول خصبة بأحواز المدينة، تقول: (تار) تعني عديم و (دانت) تعني ذهبوا، الشيء الذي يحيلنا الى الفرضية السابقة الذكر لغرق أطفال السيدة. هناك رواية ثالث، ترى ان اسم تارودانت تحريف لكلمة (تاغودانت) او (تالفودانت)، التي تعني باللغة العربية فاكهة التين. ثم وجدنا رواية شفاهية رابع تفسر معنى تارودانت، ونعتبرها فرضية أخرى تقول :(دار وادان) تعني الحاجز. اما استاذنا عمر افا رحمة الله عليه ورد في كتابه مسالة النقود، يرجع أصل اسم تارودانت الى (ارودان) التي تعني المرتفع من الأرض، حيث عتر في بحته السالف الذكر على قطعة نقدية منقوش عليها (رودانة). وهكذا، هناك خمس فرضيات، تقارب اسم تارودانت، ولربما هناك فرضيات أخرى لم نصل اليها في قراءاتنا حول تاريخ مدينة تارودانت.
اجمع الاخباريون والمؤرخون الذين اهتموا بتاريخ تارودانت، على ان المدينة أسسها امراء جزولة وشتوكة، وهما قبيلتان من قبائل المصامدة استوطنتا المنطقة، ولهما فخدات بواحة تيوت القريبة من تارودانت، وذلك حسب ما ورد، عند المؤرخ ابن خلدون وعند الاخباري أبو القاسم الزياني الذي كان وزيرا للدولة العلوية توفي سنة 1833. وبإجماع العديد من المؤرخين، ظلت المدينة قبل مجيء الولاة العرب، عاصمة لأمراء شتوكة وجزولة، لذلك كانت مركزا للقيادات المحلية السوسية.
كما اكد المؤرخون ،ان الإسلام دخل الى تارودانت على يد عقبة بن نافع الفهري تم مع موسى بن نصير، ومن جهة أخرى ورد في كتب التاريخ، ان الولاة العرب ،اساؤوا للمنطقة وسكانها الامازيغ بسبي النساء الجميلات وفرض الضرائب الثقيلة ، مما دفع بسكان المدينة واحوازها ،يلتحقوا بثورة الخوارج ،الذين كان مستقرهم بطنجة، الشيء الذي اكد المكانة الاستراتيجية لمدينة تارودانت ،ثم دخلت تحت سلطة امارة برغواطة مع اميرهم الياس بن صالح ،والذي يؤكد هذه الفرضية ،ان المجال الجغرافي لسلطة برغواطة يحصره المؤرخون بين وادي ابي رقراق و وادي تانسيفت .غير ان التحاق سكان تارودانت واحوازها بخوارج طنجة يفرض علينا طرح سؤال :هل هذا الالتحاق انتقاما من المذهب المالكي مع الولاة العرب ، ام بحثا عن دعم قوة ثورية لطرد الولاة من ارضهم؟؟.
عاشت مدينة تارودانت واحوازها ،التي هي من اصل اتحاد قبلي مصمودي ، تقلبات مذهبية دينية ،كما عرفت ارضها معارك سياسية بين الدول التي ضمتها الى سلطتها، فدخلها الادارسة في عهد ادريس الثاني ،الذي شن حملة عسكرية في محاولة منه لإخضاع الطرق التجارية العابرة الى الصحراء ،وكان ذلك من دوافع الحاق المدينة بالسلطة الادريسية ،بمعنى حضور العامل الاقتصاد ،كان وراء سيطرة الادارسة على المدينة ،فجعل الادارسة مقر سلطتهم اغمات ،الشيء الذي جعل تارودانت تابعة إداريا لأغمات، ومع ذلك بقيت محافظة على دورها في استقبال تجارة الذهب الاتية من السودان (السنغال ومالي والنيجر حاليا) ،لذلك ،كانت تارودانت محط اهتمام الامراء ،الشيء الذي يفسر عودة امارة برغواطة في محاولة لاحتلالها ،محاولين طرد الادارسة منها .ففي الوقت الذي كانت فيه تارودانت محط صراع للسيطرة على تجارتها الذهبية ،لم تنجو من الصراعات المذهبية ،فمع الولاة العرب دخلها المذهب المالكي ، و مع برغواطة دخلها مذهب الخوارج ،ومع الادارسة دخلها المذهب السني ، ثم عاد الخوارج مع سيطرة برغواطة على المدينة من جديد ،وبعدها سيطر المذهب الشيعي مع الفاطميين ،الذين لم يدخلوا الى ارض المغرب الأقصى. بل ساهموا في نشر المذهب الشيعي انتقاما من المذهب السني.
الملاحظ، ان الاخباريين والفقهاء والمؤرخين، يتحاشون الحديث عن الصراع المذهبي الذي عاشته تارودانت، الشيء الذي فوت علينا معرفة المزيد من الوقائع والاحداث والتحولات التي عرفتها المدينة. وفي هذا الإطار نتساءل، ألم يؤثر الصراع المذهبي على تراجع الدور التجاري لتارودانت مع توقف قوافل الذهب؟
أسفر الصراع المذهبي لصالح المذهب السني، فأصبحت المدينة تحت تأثير فقهاء جزولة بزعامة الفقيه وجاج بن زللو اللمطي، الذي شجع تلميذه عبد الله بن ياسين الجزولي لخوض معركة حصار المذب الشيعي، فجمع قبائل صنهاجة في إطار حركة سموها بالحركة المرابطية، معتمدا على رفيقه الفقيه ابوبكر بن عمر اللمتوني، الذي عاد الى الصحراء في ظروف غاضة، بمعنى ساهما الفقيهان في انشاء اتحاد قبلي من جزولة ولمتونة لتصفية المذهب الشيعي بتارودانت 1056 م.
دخلت تارودانت مع الدولة المرابطية الى عهد جديد، تميز بالاستقرار السياسي والتجاري بعودة قوافل الذهب الى تارودانت، كما ازدهرت الفلاحة والحرف والتعليم، وحصن المرابطون مدينتهم بالأسوار والابراج تحسبا لأي هجوم، فأسس المرابطون قاعدة عسكرية بتارودانت، لمراقبة المصامدة بسفوح الاطلس الكبير.
عندما دخل المرابطون الى مرحلة التدهور السياسي والعسكري 1140 م ،الذي كان يترصده الموحدون ،لم يتأخروا في الهجوم على تارودانت ،التي دخلت اتر الصراع بين القوتين الى ازمة اقتصادية، فتوقفت التجارة والإنتاج المحلي .وعندما استتب الامر للموحدين ،ستعود تارودانت الى مرحلة الازدهار العلمي والتجاري والحرفي والفلاحي والعمراني ،حيث عرفت استقبال الهجرة من قبائل سوس ،فعاد الرخاء مع وفرة الإنتاج ، وبذلك ،اكتسبت دورها كعاصمة إدارية لسوس ،ففي هذا الجانب ،تحدث بإسهاب كل من الرحالة الشريف الادريسي والاخباري ابن عداري عن الازدهار الاقتصادي، الذي عرفته تارودانت في العهد الموحدي ،غير ان المدينة في مرحلة تدهور الدولة الموحدية ، ستدخل من جديدة في أزمات ،بظهور حركات ثورية، من قبيل ثورة علي بن يدر الزكندري التي دامت ثورته من 1253 الى 1266 ،عرضت تارودانت الى خراب. فكان المجتمع والعمران والتجارة والحرف ضحية الصراع العسكري والايديولوجي، في خراب تارودانت.
لم يستطع الامراء الضعاف للموحدين، القضاء على ثورة علي بن يدر الزكندري. الى ان دخل المرينيون المدينة، فقضوا على الثائر، لكن الثورة بقيت مستمرة، ومع ذلك اتخذ المرينيون المدينة مركزا لسلطتهم، كما عرفت عمليتي الهدم والبناء، الشيء الذي كان له أثر على الوضع العمراني، فاذا كانت ثورة علي بن يدر خربت معالم المدينة، فان بنو مرين اعادوا أجزاء من بنائها، فبنوا القصبة.
بعد نهاية الحكم المريني ،عادت الفوضى من جديد الى المدينة مع غزو القبائل العربية ، التي سيطرت على المحاور التجارية الاتية من السودان ،حيث مصادر الذهب والعاج وريش النعام وغيرها من منتوجات افريقيا جنوب الصحراء ،كما فرضت الضرائب على المحاور التجارية ،فرغم الازمات السياسية والأيديولوجية ،حافظت المدينة على مركزها الاشعاعي على مستوى الثقافة الدينية والحرف والتجارة ،فابن خلدون له إشارات واضحة حول ازدهارها ،حيث حدثنا عن زراعة قصب السكر خلال القرن 14 م، اما الحسن الوزان ،فقد وصف الحرف بكثرة صناعها، ومجتمعها يتشكل من أناس مسالمين اكثر تحضرا خلال القرن 16 م .اما على مستوى طبيعة السلطة في المدينة ،فان الحسن الوزان، أشار ان المدينة خضعت لسلطة اعيانها ، فعندما حول الابيريون الطرق التجارية الاتية من السودان الى سواحل المحيط الأطلسي ، تضررت مدينة تارودانت من ذلك التحول.
دخلت تارودانت منذ 1515م في بيعة السعديين ،فأصبحت عاصمة لهم قبل ان تنتقل الى مراكش 1524م، مع جهلنا لأسباب هذا الانتقال ،بقيت تارودانت مركزا تجاريا وعلميا ،كما نسجل ان العديد من الاخباريين ،يعتبرون تارودانت منطلقا للحركة السعدية وليست عاصمة لهم ، كذلك سيطروا على واحة تيوت كمركز تجاري، فأقام بها محمد الشيخ مسجدا لا زال موجودا الى يومنا هذا ،كما أعاد تحصن مدينة تارودانت ،عرفت في عهده باسم المحمدية ، وبفضل الاستقرار السياسي ،انتعشت المحاور التجارية بين تارودانت وباقي المدن المغربية خاصة مراكش وفاس ،كما عادت المحاور التجارية الصحراوية الى الانتعاش ،مع السنيغال ومالي ومملكة تنبو كتو ومملكة سنغاي ،جنوب موريتانيا حاليا .
انتعشت السلع المحلية بالمدينة، كالأواني النحاسية والانسجة الصوفية والحريرية وصناعة الجلود والسكر، الشيء الذي يدل على ان الحرفي الترودانتي، تميز مهارة عالية في الحرف. يحدثنا الاخباريون، ان معامل السكر، تركزت بأحواز المدينة، بأولاد مسعود وتازمورت. وبفضل الانتعاش الاقتصادي الذي رافقه الرخاء، انعكس إيجابيا على استقرار السكان، كما عرفت تارودانت حركة عمرانية، الشيء الذي جعل المدينة تنافس مراكش وفاس على مستوى الحركة التعليمية والثقافية في جانبها الديني، فأصبحت مشتلا لعلماء الدين، فتحول الجامع الكبير الى جامعة تستقبل الطلبة من كل مناطق سوس.
تعرضت مدينة تارودانت خلال القرن 16 م الى موجات من الطاعون، الشيء الذي أفرغ المدينة من سكانها، وبعد وفاة الأمير احمد المنصور الذهبي بالطاعون في احدى مغارات الجبيلات نواحي مراكش 1603م، وتحولت ساحة جامع الفناء الى مقبرة مكشوفة بسبب الطاعون، ومن ذلك جاء اسمها بجامع لفنا. يمكن ان نسجل، ان انتشار الطاعون كان اخر إسفين دق في حياة الدولة السعدية، الذي تزامن مع تقاتل ابناء احمد المنصور الذهبي حول السلطة، لذلك انقسم المغرب الى مملكتين، مملكة فاس ومملكة مراكش.
بعد وفاة احمد المنصور الذهبي، دخل المغرب الى مرحلة الازمات السياسية ،التي اتخذت وجهان ،من جهة ،الصراع بين أبنائه ،ومن جهة أخرى ،ظهور زعامات محلية، كالصراع بين الثائرين ،الفقيه ابن محلي مع الفقيه يحيى الحاحي ،الشيء الذي أدى الى استقلال تارودانت عن التبعية للسعديين ،فاعلن يحي الحاحي نفسه اميرا على تارودانت مؤسسا امارة بها ،استمرت الى حدود 1629 م،فحد من أطماع ابي حسون السملالي زعيم الزاوية السملالية ،الذي اخرجه من تارودانت ،فاستقر بإليغ ،ينتظر فرصة العودة الى المدينة ،وبعد وفاة يحيى الحاحي ، عاد أبو حسون السملالي الى تارودانت، الى ان قضى المولى الرشيد العلوي على الزاوية السملالية.
يعتبر الموضع الاستراتيجي المحصن جغرافيا بجبال الاطلس الكبير والاطلس الصغير لتارودانت ،والموقع التجاري والحرفي وسط سوس ،مغريا للثوار والامارات الناشئة ،منها الدولة العلوية ،عندما علم المولى إسماعيل العلوي ،ان المولى الحران مع المولى احمد بن محرز، استوليا على تارودانت ،زحف اليها ،فحررها بعد حروب ،فولى ولايتها الى ابنه المولى محمد العالم 1687 م ،فعادت المدينة الى نشاطها التجاري والحرفي والثقافي السابق ، الى ان دخلت في ازمة سياسية بسبب رغبة المولى محمد العالم في استقلاله بالمدينة ،عن ابيه المولى إسماعيل ،فبعث هذا الأخير ابنه المولى زيدان لتحرير تارودانت ،بعد حرب دامت 3 سنوات بين الاخوة الأعداء ،الشيء الذي ادخل المدينة في محنة أخرى ،الى ان عين عليها المولى إسماعيل ابنه المولى عبد الملك 1721 م.
مع الحروب بين أبناء المولى إسماعيل، فقدت تارودانت دورها الاقتصادي والثقافي من جديد، خاصة خلال القرنين 17 و 18 م، ساهمت هذه الصراعات والحروب في توقف الحرف والتجارة الداخلية والخارجية الى القرن 19 م، دخلت تارودانت في مرحلة جديدة، تحت حكم القواد الكبار، فعاثوا في المدينة فسادا، وهي ميزة تميز بها القرن 19 في المغرب.
في زيارتنا لمدينة تارودانت، تبدو لزائرها، انها مدينة منكوبة، مدينة تأديبية بموظفيها، مدينة بدون افق، اسوارها برغم من الترميمات بدأت تتساقط، مدينة بدون مراحيض وبدون حدائق، برغم من موضعها بين وادين وادي الواعر ووادي سوس، مدينة تصل فيها درجة الحرارة في فصل الصيف الى أكثر من 35 درجة تحت الظل، لا وجود لأشجار، باستثناء أشجار النخيل غير متمر ولا يفيد في التظليل.