الجوكر: ثقب أسود في فضاء السينما

الجوكر: ثقب أسود في فضاء السينما
شارك

يونس وانعيمي

كانت بذور جينية للإبداع مزروعة حتما في قلب الطفل خواكيم، تفتقت في كنف أسرة بها رهافة حس بالغة التركيب والتعقد. وجد نفسه بإحدى غابات فنزويلا وهو طفل صغير، يصاحب والديه في مهمات روحانية اجتماعية ضمن جماعة أطفال السماء.. نفسها الجينات كانت مبثوثة في قلب أخيه ريفر River لكن بجرعات زائدة ادت إلى حتفه المفاجئ وهو لم يبلغ بعد 26 سنة.

يذكرنا خواكيم في كل تتويج بتك اللحظتين الفيصليتين في مساره كفنان متقد وعميق:

بدون مبررات، طلب منه اخوه الأكبر ريفر مشاهدة الأداء الاسطوري لRobert de Niro في فيلمه Raging Bull والذي نال عنه أوسكار احسن أداء.. وهو فيلم جاء به ريفر للبيت على شاكلة كاسيت VHS ولحد الآن سيظل خواكيم يعاود مشاهدة الفيلم كما لو كان كتابا دينيا مقدسا يختلي به في صلواته السينمائية استعدادا لتقمص ادواره « الروحانية » شديدة التركيب والتي غالبا ما تدور في فلك التنافر الوجداني بين « رهافة الحس الإنساني عند الإنسان المتحول بفعل الظلم إلى شيطان »

اللحظة الثانية كانت ربما خطيرة على وجدان يافع وهو يمسك بأخيه ريفر المحتضر بين ذراعيه قبل أن يأخذه الموت دقيقتين بعد ذلك، جراء تناوله جرعات زائدة من مزيج هيروين وكوكايين وقنب هندي.. للإشارة فقد كانا معا في حانة بلوس انجلس في ملكية الشاب آنذاك Johnny Deep

لحظة موت ريفر جعلته يعيش احساسا مستمرا هو أن الموت يغيب الجسد ولا يغيب الموهبة.. فظل ريفر حبيسا في وجدان خواكيم.. وبالتالي فهما فنانان كبيران في جسد واحد.. لذلك نلمح تلك الكثافة الشديدة في أداء خواكيم وهي كثافة لا يقدر ممثل مقتدر واحد ان يحولها لاقتباسات وتشخيصات متوازنة كثيرا ومتناقضة كثيرا.

هذا الممثل البارع جدا يأخذنا بسرعة لعوالمه ولم يعدنا ولو مرة بأنه بطل ولا ان في جيبه تذكرة عودة نعود بها من عوالمه… فعلها في gladiateur, واستفحل فيها في فلم رهيب عنوانه The Master مع ممثل اكثر تركيبية منه وهو الراحل Philip Seymour

لكنه في فيلم Jocker سيختطف الجميع بغرض ان لا أحد سيعود ادراجه من Jocker الا قديسا او مجرما ولا وضعية بيبية محتملة وممكنة.. طبعا هذه أحاسيس متنافرة سيحظى بها المشاهد ذي النفحة الانسانية العميقة.. أما من يتدافع ليستمتع بالعنف فقط أو بالغرابة فقط أو حتى الاغتراب فالأجدر به أن يترك خواكيم ويتوجه لمشاهدة الخيال الممزوج بالبورنوغرافيا حيث الشرطة تطبق على الجميع في الاخير..

خواكيم  وريفر فونيكس كانا معا في Jocker  ولا ادري كم سيستدمج هذا الفنان من شخوص أخرى في شخصياته القادمة.. والمسكين، نعم المسكين يلزمه مجهود روحي وفني وفلسفي كبير ليقنع به نفسه انه يمكن أن يكون شخصا اخر غير Jocker في مساره السينمائي اللاحق.

لقد سبق لي في مقال قديم نسبيا أن انتبهت (وطبعا لن أكون الوحيد) إلى أن الفنان جواكيم فونكس الذي أبهر العالم في دور جوكر (وقد حاز جائزة أوسكار عن ذلك) سيختفي عن الأنظار لوقت ليس بيسير…

طبعا حاولت تفسير أسباب ذلك…مع أنني أظل من الناس غير الفاهمين كثيرا لخطورة الأدوار الضخمة على الممثلين والمقتبسين الجادين وخصوصا دور شخصية الجوكر.. دور الجوكر أتعب جاك نيكلسن وجعله يختفي طويلا منذ أداءه الدور في عام 1989 مع المخرج تيم بورتون « السوداوي العبقري » ثم بعد ذلك أجهز على الشاب هيت لدجر سنة 2008 بعدما جسد دور الجوكر مع المخرج كريستوفر نولان ولم يحظ بفسحة زمنية للحصول على جائزته الأوسكار لأنه انتحر شهورا قبل التتويج

ثم هاهو جواكيم فونكس، الممثل الصعب، يجازف مع المخرج تود فيلبس ليؤدي دور الجوكر وهو المفروض فيه عدم السقوط في التكرار والتماهي مع الممثلين السابقين الذين أصيبوا كلهم بما يعرف بنوبة الانكماش النفسي بعد انشطار شخصياتهم واندماجها مع شخصية درامية غاية في الخصوصية – فكاهة سوداء وهستيريا صاخبة بطعم الألم والغرور واللامبالاة (الجوكر)

وأدركت في المقال بصدق المتتبع الشغوف غير المحترف أن معاناة جواكيم فونيكس مع ثقل شخصية الجوكر واحتلالها مكانا كبيرا في شخصيته ومخياله سيجعله يبتعد عن الأضواء طويلا حتى يتم التملص والتحرر من هذه الشخصية الخطيرة على رتابة إنسان هذا العصر

هذه الظاهرة – ظاهرة اختفاء النجوم داخل الأثقاب السوداء للشخوص المركبة-  ربما غريبة علينا بعض الشيء وغامضة على إنتاجاتنا السينمائية ويعيشها الكثير من المبدعين الأفذاذ بدون إدراكها تماما (رفض العروض والأدوار والاختفاء عن الأضواء)، وذلك يرجع ربما إلى قلة قوة التماهي التشخيصي للعديد من فنانينا مع الشخوص الموضوعة رهن « المشاخصة » أو التماهي الدرامي كما يعود طبعا لعدم رغبة الإنتاجات الدرامية المجازفة بالاقتراب من قضايا وشخوص معقدة ومركبة (ربما لأن تجارة الفن عندنا ما تزال تعتمد على أذواق الملح والسكر فقط)…

هنا يفهم عالم السينما سلوك النجم البريطاني دانييل دي لويس (الأكثر تتويجا على الإطلاق) والذي لا ينزل من عزلة طويلة إلا ليغرق في أخرى أطول، ولكنه يظهر ويؤدي دوره ويأخذ أوسكار أو كولدن كلوب ثم ينصرف لإيرلاندا حيث يعيش في ضيعته الجبلية…

أنتظر فعلا متى وكيف سيظهر السيد خواكيم فونكس كما أنتظر تعيس الحظ أو ذلك المغامر المقامر بحياته الفنية الذي سيأخذ « مشعل الجوكر » من يدي السيد فونكس.

أخبرنا خواكيم أنه يحضر للجوكر2. هل هو أول احتلال سينمائي في التاريخ تقترفه شخصية على ممثل؟

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *