مدخل لقراءة كتاب « الزمن والسرد » لبول ريكور. الحلقة الثالثة
محمد السميري
إن السرد التاريخي كما سبق وأن قلنا له خصائص معينة من بينها
- عنصر التقويم
يختلف السرد التاريخي عن السرد الأسطوري بأنه يحتكم دائما للتقويم(تقويم ميلادي، تقويم هجري)فلا بد من سنوات تقويم ،فكلام المؤرخ غير كلام الأسطورة(كان يا ما كان) فالزمن في الأسطورة غير متعين ،فالمؤرخ يحتاج الى كيفية توزيع الأحداث على محور التقويم.
- عنصر تتابع الأجيال
يؤمن التاريخ بتتابع الأجيال بحيث لا يتكلم عن البشر ككتلة واحدة كبيرة غير متمايزة، فالأساطير تتكلم عن الشعوب والبشر باعتبارهم كتلة خارج التاريخ والزمن، لكن التاريخ يؤمن بتتابع الأجيال، فهناك المعاصرون والأسلاف والأخلاف ،فهو يتكلم عن الأسلاف من منطلق المعاصر ويتطلع الى الجيل القادم. يقدم لنا التاريخ مختبرا كبيرا للخبرة البشرية التي تتناقلها الأجيال، فمفهوم الأجيال ذو أهمية كبيرة.
- عنصر الأرشيف والوثيقة والأثر
ان التاريخ لا يرمي الكلام على عواهنه، فالمؤرخ حين صياغته لحبكة معينة وروايته لقصة تاريخية فهو مسؤول أمامنا بتقديم الأرشيف(مجموعة من الوثائق ،مجموعة في مكان يسمى الأرشيف) فكل ما يقوله المؤرخ في حكايته وفي حبكته التي يقدمها يخضع دائما للمساءلة على أساس الوثيقة والأثر، فإذا لم يتوفر على وثيقة ولا يؤيد الأرشيف كلامه فقصته توضع مع الرواية التاريخية الخيالية القصصية والتي لا تنتمي للسرد التاريخي.
فبول ريكور يحرص بشكل جدي على وضع قطيعة معرفية بين السرد التاريخي والسرد القصصي، وهذا لأننا هنا أمام إمكانية تشويه التاريخ، وهذا يحدث كثيرا حيث نقراء تواريخ مشوهة ودعاوي باطلة وتهميش لجماعات وتصعيد من شأن جماعات. فإذا ما اتبعنا كلام هايدن وايت وقلنا بأن التاريخ هو قصة مثله مثل القصص ويجب أن نتقبلها لأنها قصة مقنعة، فإن مثل هذا الكلام غير مسؤول تاريخيا.
النوع الثاني من السر دهو:
- السرد القصصي
تشترك القصص مع التاريخ في الحبكة، فالقصص تحتوي على حبكة كما في التاريخ، فهناك عناصر كثيرة نجدها في التاريخ وفي القصص مثل الشخصيات وغيرها. لكن السؤال الذي يطرح هو: اذا كان من الممكن فحص السرد التاريخي والتأكد من مصداقيته، فكيف يمكن التأكد من مصداقية السرد القصصي؟ فهل للسرد القصصي مصداقي؟
يؤمن بول ريكور بأن للسرد القصصي مصداقية، لكنها مصداقية مختلفة، ففي السرد القصصي يكون التعويل في جمع الأحداث المتناثرة على محور الزمن وتقديم رؤية معينة، وهذه الرؤية بقدر ما تدعم خبرتي في الحياة وتدعم شروط حياتي كقارئ، فهي لها مصداقية بقدر ما تعتمد(الرؤية)على حقائق التجربة الإنسانية المعيشة ،وليست خرافة وترهات وفانتازيا.
فالقاص يعيش التجربة الإنسانية مع الآخرين ضمن مجتمع وضمن الجماعة فيعاني ويفرح، وبالنتيجة يأتي ويضع كل ذلك في اطار رؤية تنتظمها حبكة، فيحاول ان يقدم فهما جديدا للتجربة يساعد القارئ الانسان. فالسرد القصصي يقدم لنا خبرة عملية وليست نظرية .فقراءة روايات متعددة تجعلك تخرج بخلاصة نظرية لاكتشاف الحقيقة عن الحياة. فالقصص تمنحنا نوعا من التدريب على الحالات المتنوعة في الحياة. فكلما قرأت رواية ما تتعرف من خلالها على حالة لم تعشها من قبل، لكن غيرك عاشها فتصرف بها وخرج بنتائج ومعاني من أشياء لم يكن ربما يتوقعها. فتعرفك على هذه الحالة القصصية يعطيك غزارة ومعرفة عملية تساعدك على أن تفهم العالم. فللقصص اذن مهمة معرفية وليست مجرد فنتازيا غايتها عرض مهارات وعضلات القاص والروائي. فالرواية هي حوار منتج بين الروائي وبين القلرئ.
يشير بول ريكور في الجزء الثاني من الكتاب المخصص للسرد القصصي الى أن الأصناف الأدبية المختلفة تتعامل مع قضية الزمان والحدث بطرق مختلفة فلكل واحدة من هذه الأصناف طريقته في جمع الأحداث على محور الزمان، فإذا ما اخدنا الرواية كصنف مختلف نجد بأنها تمتاز بتقديم تعقيد كبير على المستوى الاجتماعي والنفسي ،فتطرح طرقا جديدة في الكشف عن العالم الداخلي للشخصيات، فالرواية لها تقنياتها الخاصة في السرد الحر المباشر أو تيار الوعي وغيرها لا تتوفر في الأسطورة أو في الملحمة أو في الحكاية الشعبية. هذه التقنيات المتطورة التي جاءت مع نشوء الرواية في القرن18 تعطي للرواية ميزة لحل مشكلة الزمان.
يتحدث بول ريكور في كتابه عن مفهوم المحاكاة ويصنفها في ثلاثة أنواع……