مدخل لقراءة كتاب « الزمن والسرد » لبول ريكور. الحلقة الثانية
محمد السميري
فالحبكة هي علاقة بين حدثين تعتمد أما السبب أو النتيجة أو الرؤية أو التجاور، فالفكرة أن رهان السرد هو جمع الأحداث على محور الزمن الكوني، لاستخلاص معنى ودلالة للقارئ تستطيع أن تساعده على أن يجعل العالم المعاش قابل للسكنى وله معنى. هذه النظرة أي أهمية الحبكة في السرد هي الفكرة المحورية في كتاب بول ريكور. فريكور يعتبر أن السرد بدون حبكة ليس سردا، وهو يختلف في هذا الصدد مع كثيرين، فهناك من يقول انه يمكن كتابة قصة أو رواية تاريخ بدون حبكة وبدون حاجة للزمن أو الحدث. فالسرد كما اشرنا آنفا هو حل مشكلة العلاقة بين الزمن الكوني والحدث النقطي.
فما هو السرد بالنسبة لبول ريكور؟
يقسم ريكور السرد الى قسمين:
– السرد التاريخي.
– السرد القصصي.
فالكتاب مقسم للحديث عن هذين النوعين من السرد، فالعلاقة بينهما هي علاقة تشابه واختلاف .يشبه التاريخ القصص التي يكتبها الروائيون أو الحكايات الشعبية وغيرها، فهو يشبه القصص في الاعتماد على الحبكة، فلا يمكن كتابة تاريخ حقبة ما بدون صنع نوع من الرابط بين الأحداث المختلفة في تلك الحقبة، فرابط الأحداث المختلفة يعني الدخول في موضوع السببية والتجاور والرؤية، فالتاريخ يحتاج الى هذه الميزة التي تتميزبها القصص الخيالية، أيضا فالحدث في التاريخ يختلف عنه في العلوم الطبيعية. يتميز الحدث في العلوم الطبيعية بأنه متكرر، ويمكن أن نستخلص منه قانونا شاملا، فالعالم حين يدرس مثلا غليان الماء يبحث عن القانون الشامل الذي يحكم هذه العملية وتنتفي كل الظروف المصاحبة بمجرد اكتشاف هذا القانون. لكن في التاريخ يختلف الحدث، فالمؤرخ يتعامل مع غزارة التاريخ، فلا يستطيع ولا يسعى الى أن يستخلص من غزارة التاريخ قانونا شاملا يسمح له بأن يتنبأ بما سيحدث مستقبلا. لقد كانت هناك محاولات لاعتبار التاريخ علم من العلوم البحثة، لكن اصبح الان واضحا أن ذلك غير ممكن، فالتاريخ نفسه يقول لنا أن توقعاتنا تصاب بالخيبة في غالب الأحيان، ويعود ذلك الى غزارة التاريخ، ومن جهة أخرى فكتابة التاريخ تبدأ دائما من نقطة الحاضر، فهو ليس حقيقة موضوعية كامنة في بطون الماضي فما على المؤرخ الا الذهاب اليها واستعادتها كما هي. اذن فكتابة التاريخ تبدأ بأسئلة من لحظة الحاضر، بل هناك مؤرخون تجاوزوا غزارة الحدث في التاريخ منهم مثلا مدرسة الحوليات. يناقش بول ريكور هذه الفكرة خلال كتاب » المتوسط في عهد فيليب الثاني » للمؤرخ الفرنسي فردنان بروديل. يعتبر بروديل أن التاريخ ليس بحاجة الى الحدث، وليس بحاجة الى حبكة وانما يتعامل التاريخ مع كيانات كبرى مثل المؤسسات والحياة الاقتصادية والتجارة وطرق الملاحة، أما الاحداث التي يهتم بها المؤرخون فيعتبرها بروديل غير ذات أهمية، فهو يركز على تاريخ المدة الزمنية الطويلة. يرد بول ريكور في تحليله. أن الحقيقة لو تقرأ كتاب » المتوسط في زمن فيليب الثاني » ستكتشف أن هذا الكتاب يحتوي على حبكة، والتي تتمثل في انحدار مكانة البحر المتوسط وانتقال الثقل التاريخي من البحر المتوسط الى البحر الأطلنتي والى أوروبا الشمالية، فهناك اذن حركة، فالتاريخ يتجه بالتجاه معين فبروديل يحاول رصد هذه الحركة التي هي حركة انحدار .فوفاة فيليب الثاني عام 1598م ليست في الحقيقة نهاية القصة، فالقصة التي يقدمها بروديل هي قصة نهاية العملاقين اللذان سيطرا على المشهد الدولي خلال حقبة فيليب الثاني وهما اسبانيا وتركيا. فسقوطهما وانهيارهما وصعود أوروبا الشمالية وامريكا فيما بعد ،يضعنا امام حبكة لكن ابطالها ليسوا أشخاصا أو افرادا وانما ابطالها كيانات كبرى، فبروديل يأخذ الشخصيات ليس على غرار أفراد وانما على شكل دولة، فهو يتعامل مع اسبانيا وكأنها شخصية قصصية، حيث يقول:(قررت اسبانيا ان تفعل كذا.. وقررت تركيا ان تفعل كذا..) فإسبانيا وتركيا لا تقرران فمن يقرر هم فاعلون بشر، لكن بروديل يحاول أن يتغلب على هذه القضية، فهو يريد ان يطرح كيانا خارج الحدث التاريخي، وهذا طبعا غير موجود. هنا يمكن اثارت سؤال مهم. فإذا كان التاريخ يعتمد على النظرة القادمة من الحاضر فما هي مصداقة التاريخ؟ فقد اضحى التاريخ مثل القصة؟ وبالتالي فلا فرق بين قراءة رواية أو قراءة التاريخ. تعتبر هذه النقطة ذات أهمية بالنسبة لبول ريكور حيث يختلف مع هايدن وايت وهو من منظري فلسفة التاريخ الكبار، فمشكلة هايدن وايت بالرغم من كل الكشوفات التي قدمها انه لا يضع قطيعة معرفية بين السرد القصصي والسرد التاريخي، فالتاريخ حسب هايدن وايت يستعير من السرد القصصي الاستعارة والكناية والمجاز المرسل والتهكم، فيتحول التاريخ بهذه الاستعارة الى قص. يرد ريكور على هايدن وايت بأن هذا الكلام يصح الى حد معين ولكن التاريخ له مصداقية خاصة به لا تتوفر للسرد القصصي. في الجزء الثالث من الكتاب يرد بول ريكول على هايدن وايت قائلا « بلجوئه (يقصد هايدن وايت) الى علم المجازات يحمل لنا خطورة إزالة الحدود الفاصلة بين القصص والتاريخ فالاعتباطية المجازية يجب الا تجعلنا نتناسى الاكراه المنطقي الذي تمارسه الواقعة الماضية على الخطاب التاريخي عن طريق الوثائق التي تتطلب من هذا الخطاب تصحيحات بلا نهاية » (ص2231/الجز3).فالتاريخ له مصداقية خاصة اذن وهناك تلاث عناصر تميز السرد التاريخي حسب بول ريكور……