مدخل لقراءة كتاب « الزمن والسرد » لبول ريكور. الحلقة الرابعة
محمد السميري
لم يرفض بول ريكور المحاكاة فالأدب يطفو في سماء زرقاء كما يقول. وبهذا فقد قسم ريكور المحاكاة الى ثلاثة انواع:
– 1 /المحاكاة بمعنى ما يسبق السرد، فأنا أعيش حياتي وفق قناعاتي وفهمي للعالم، فأنا نفسي ممكن ان اروي قصة، وأشارك في حدث، ولي فهم يسبق السرد، فهم بمعناه التأويلي، وهو المهاد الذي تنطلق منه الحكاية، فأنت تدلي ما قبل السرد بحكايتك الطبيعية اليومية.
– 2/ المحاكاة هي الأساس الذي تنبني علية الأحداث والمتغيرات في نطاق نص سردي. في هذه المحاكاة يتشكل نص سردي، رواية، حكاية شعبية، تراجيديا. في هذه المحاكاة اترك حياتي اليومية ومعارفي وقناعاتي وأدخل في تفاعل مع نص سردي يقدم لي تجربة في الحياة بطريقة معينة ووفق رؤية معينة، فأتفاعل مع هذا النص السردي وأخرج بحصيلة
– 3/ النوع الثالث من المحاكاة هي ما يحدث بعد قراءة النص السردي والاطلاع عليه والخروج منه بنوع من الغزارة الأفضل في فهم التجربة الإنسانية. فكل رواية وكل نص سردي يزيد خبرتنا العملية بالعالم المحيط بنا. يتعلق هذا النوع من المحاكاة بالقارئ. فريكور يعتقد أن القوس الذي يمثله السرد ينتهي بالنتيجة في القارئ، فغايته هي القارئ. فمن يعتقد انه يكتب لنفسه ولا يهمه القارئ يرد عليه بول ريكور بقوله: النص الوحيد الذي اكتبه لنفسي هو قائمة المشتريات حين اذهب للتسوق، عدا ذلك فكل ما اكتبه فأنا اخاطب به القارئ . فبواسطة المحاكاة الثانية سنعود الى حياتنا المعتادة ونحن نحمل غزارة ومعرفة عملية بالعالم أفضل وذلك بفضل النص الذي اطلعنا عليه بالمحاكاة الثالثة.
ان المحاكاة كما طرحها ريكور تختلف عنها في الفهم الأرسطي. فالمحاكاة الثانية تأخذ من ارسطو مفهوم الحبكة، وتأخذ من القديس اغسطين مفهوم الزمن النفسي. فرهان ريكور هو الجمع بين مفهوم الزمن النفسي الذي قدمه القديس اغسطين في الكتاب الحادي عشر من الاعترافات. ومفهوم الحبكة الذي قدمه ارسطو في كتاب فن الشعر خارج نطاق الزمن الكوسمولوجي ،فقد تناول ارسطو الزمن الكوسمولوجي في كتاب الطبيعيات فلم يجمع الزمن الكوسمولوجي مع زمن الحبكة، فقد تكلم ارسطو عن البداية والوسط والنهاية لكنه لم يقل لنا ماهي علاقة البداية والوسط والنهاية بالزمن الكوسمولوجي البارد.
لقد جمع ريكور بين الزمنيين، لذلك نجده استعار المحاكاة الثانية من ارسطو. فتشكل النص السردي حين قراءة مسرحية او رواية نتعرف من خلاله على تجربة تشكلت في حبكة معينة وشخصيات ،وتطور احداث وتيمة. فريكور في هذه النقطة مدين لأرسطو.
موقف بول ريكور من النقد البنيوي
يحترم بول ريكو النقد السيميولوجي البنيوي وذلك لقدرته العظيمة على دراسة سطح السرد. فالسيميولوجيا السردية وعلم السرد(narrathologie) يمنح استفسارات عظيمة في آليات وطبيعة السرد القصصي الذي يحدث على السطح. لكن مشكلة البنيويين انهم يردون كل هذه الغزارة الى السطح من احداث وشخصيات، أي الى بنية عميقة منطقية يستعيرها من علم اللغة. فالانتظام الذي يتكلم عنه البنيوييون ليس انتظام الحبكة وانما هو نظام مستعار من اللغة والذي هو بالنتيجة ثابت.فالتحليل البنيوي كما يقول ريكوريبتدئ من السطح الذي يعيدنا الى نفس البنية اللغوية ،التي لا تستطيع استعادة الاحالات الإنسانية التي يطرحها السرد وبالتالي فهي عملية فاشلة. مشكلة البنيويين انهم لا يؤمنون بالزمانية ولا يؤمنون بالحدث وبالتاريخ. فهم يؤمنون فقط بأننا كائنات عقلانية، فكل ما نقوم به يخضع لبنية ثابتة خارج التاريخ ،خارج الحدث ،خارج الزمن. فريكور يحترم ابداعات البنيويين الكبيرة في وصفها للعملية السردية، ولكنه يكشف لنا انهم يناقضون أنفسهم، فتحليلهم يحيلهم دائما الى الحبكة والحدث لكنهم يعيدون كل ذلك قصرا الى البنية اللغوية المتمسكين بها. يختم ريكور هذا الفصل بتطبيقات رائعة جدا على ثلاثة روايات عظيمة، يوضح من خلالها كيف يقدم السرد القصصي حلا لمشكلة الزمن الكوني ونقطة للحدث.
– الرواية الأولى هي رواية « السيدة دالاوي » لفيرجينيا وولف
كثير من النقاد يصنفون رواية « السيدة دالاوي » ضمن تيار الوعي وأنها لا تتوفر على حبكة، فقد اسقطت الحبكة والشخصية. ينتمي هذا الكلام العتيق الى القرن 19.يقدم لنا بول ريكور تحليلا رائعا لهذه الرواية، فيعتقد انها من روائع الروايات التي تصدت لحل مشكلة الزمان. تقدم لنا الرواية « كلاريسا » وهي امرأة في الخمسين من العمر بحفلة مرفهة تعيش حياة حلوة. تدور احداث الرواية سنة1923 يعني بعد الحرب العالمية الأولى، فهي الى حد ما رواية حرب. تصور الرواية « كلاريسا دالاوي » وهي تتمشى بالشارع، ثم هناك « سان تيموس وارن » وهو جندي أصيب بالحرب ويعاني من اختلال عقلي. وعلى طول السرد وانت تقراء الرواية هناك تنقيط لساعة بيغبن، ففي كل نصف ساعة يحدثك الراوي عن دقات بيغبن ثم يرجع للسرد. هناك أيضا زيارة الأمير بالشارع والناس يقفون لرؤيته. فالأزمنة في هذه الرواية تتجاور. فما تريد فيرجينيا قوله ان هناك زمن فردي/نفسي الذي هو زمن »كلاريسا »، وزمن « ساب تيموس »،ثم وجود زمن تذكاري وهو زمن السياسة والحرب والأمير. فالزمن الكسمولوجي الذي هو زمن الدقائق والساعات، يتم التعبير عنه بساعة بيغبن التي نسمع صوتها يتردد عبر الرواية. فحين ينتحر « ساب تيموس « على الساعة السادسة عصرا، يأتي احد المدعوين للحفلة فينقل خبر وفاته وبذلك تتكون الحبكة السردية في الرواية. فقد حلت فيرجينيا وولف بطريقة رائعة إشكالية اين نجد انفسنا في الزمن الكسمولوجي.
– الرواية الثانية هي رواية « توماس مان »، « جبل السحر ».
تعتبر هذه الرواية من أروع الروايات التي كتبت في بداية القرن20 .تدور احداث الرواية في مصحة « بيركوف » ب »دافوس »، تقدم لنا الرواية لعبة مع الزمن. فهناك الزمن الموجود على الجبل السحري، وهوزمن اسطوري يتعالى على الزمن، أي اقرب الى الزمن الخارج نطاق التعيين الزمني على الأرض. فزمن الجبل السحري يقابل زمن الناس على الأرض الذي هو زمن الاحداث. يتحقق الربط بين الزمنين حين يزور « هانس كاستور « بطل الرواية شابا مهندسا يزور هو أيضا ابن عمه « يواكين » الموجود بالمصحة على الجبل السحري ،فيبقى معه ثلاثة أسابيع، ثم يكتشف ان « هانس كاستور » يعاني هو أيضا من بداية مرض فيبقى سبعة سنوات بالجبل السحري.
يتابع ريكور توزيع زمن فعل السرد على زمن مادة السرد. يتناول الفصل الأول من الرواية ووصول « كاستر » الى المحطة والذي يستغرق خمسة عشر صفحة. يصف الفصل الثالث يوم الوصول للمصحة، يستغرق هذا الفصل الذي يأخذ يوما واحدا اربع وخمسون صفحة. يقدم لنا الفصل الرابع ثلاث أسابيع الأولى التي قضاها « كاستر » بالجبل السحري والذي يقع في ثمانية وتسعون صفحة. فهناك اذن تفاوت بين الزمن الكوسمولوجي /الكوني الذي هو أسبوع اسبوعان،يوم يومان، فليس هناك تناسب. فالسرد لا يؤمن بأن الزمن الكوسمولوجي هو الذي يتمكن منه ،وانما هناك استنبات الزمن الشخصي(زمن السرد)في الزمن الكوني. تهدف هذه اللعبة السردية للخروج بمعنى من التجربة الإنسانية الحياتية. فهذه الإشكالية الزمنية التي عجزت الفلسفة عن حلها استطاع « توماس مان » ان يجد لها حلا بأن جمع الزمنين في تجربة على مستويين،مستوى الجبل السحري اللازمني ومستوى الأرض،ثم ربط بينهما فيما بعد حين
نزل « هانس كاستر »من الجبل السحري وذهب للحرب العالمية الأولى واشترك بها.
– الرواية الثالثة هي رواية « البحث عن الزمن الضائع » ل »مارسيل بروست ».
هناك من النقاد من اعتبر هذه الرواية لا تتوفر على حبكة، لكن سنكتشف ان هذا الاستنتاج غير صحيح. النقطة الرئيسية التي يحاول مارسيل بروست حلها بهذه الرواية بحسب بول ريكور هي التغلب على عشوائية الأحداث وتكاثرها والتي مرت في حياة بروست بطل الرواية، من خلا ل تقديمها على شكل حبكة ،في سياق سرد قصصي له دلالة*.يتابع بول ريكور العلاقة بين الجزء الأول والجزء السابع المعنون ب(الزمن المستعاد)،حيث يطرح بروست سؤال(في الجزء الأول) ما معنى حياتي ،ما معنى الاحداث الكثيرة التي مرت علي، هل لها معنى؟ ما دلالتها؟. فالرحلة الطويلة التي مر بها مارسيل بروست عبر الأجزاء الستة من الرواية تقوده الى الزمن المستعاد الذي يكتشف به كسارد روائي حلا لمشكلة الزمن.
كختام لهذه القراء ة قد يتبادر سؤال حول اختزال كتاب بول ريكور في قضية الهوية السردية. الحقيقة ان ريكور يفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة من الكتاب(1000 صفحة) فهناك اربع او خمس صفحات عن الهوية السردية. فهو يريد ان يصل بنا ان كل ما قاله بالنتيجة يرمي الى الوصول الى الهوية السردية. فالعثور عل الهوية السردية نجده في كتاب(الذات عينها كآخر)والذي لا يعتمد الهوية السردية من منطلق ادبي وانما من منطلق فلسفي. فبالنسبة لبول ريكور فقضية السرد ليست قضية سهلة او قضية عبثية، فالسرد يتصدى للإجابة عن أسئلة عجزت الفلسفة عن حلها.
هامش:
*تعتبر الفلسفة العبثية انه لا معنى للزمن والاحداث.