غياب الخطاب السياسي وبهرجة « النوافذ الافتراضية »
بالقاسم امنزو، دكتور في التواصل السياسي
انسحبت جل الأحزاب السياسية من الساحة السياسية، وتوارت إلى الظل « بهدوء ومن تحتها »، (تجنبا للهيب تدهور الأحوال المعيشية للأسر الفقيرة وتدهور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى وحرارة الارتفاع المستمر لأسعار المحروقات وغير المحروقات)، ولم نعد نسمع عن أغلبها إلا بلاغات يتم تحيينها (أحيانا بتغيير التاريخ فقط) في المناسبات الوطنية أو في التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات الذي يطالب من بعضها إرجاع أموال دافعي الضرائب إلى خزينة الدولة.
في ظل هذا الواقع، لم يعد هناك إنتاج لخطاب سياسي يميز التوجه السياسي لهذا الحزب من الخط السياسي للحزب الآخر، وأصبح الكل يشهر برنامجا، ويتغنى ببرنامجه الذي أعده « مكتب دراسات » غالبا ما يكون قريبا من « الزعيم »، حتى تشابهت البرامج وتشابه السياسيون، ونفر المواطنون.
علاوة على هذا، لم يبق هناك حتى انضباط تنظيمي لعقد مؤتمراتهم في وقتها المحدد، ضاربين عرض الحائط قانون الأحزاب والأعراف السياسية، كما يلتزمون صمتا غريبا كلما أدانت العدالة أحد أعضاء مكاتبها السياسية أو برلمانييها، بل أصبحت بعض الهيئات الحزبية تحجز مقعدا في مكتبها السياسي ل »فلان » لأنه أصبح من « الأعيان » حتى يقضي عقوبته الحبسية.
هذا الفراغ جعل أصحاب « النوافذ الافتراضية » يصولون ويجولون كما يشاؤون، ويقصفون يمينا ويسارا، تارة كمحللين دون امتلاك أبسط قواعد وأدوات التحليل، وتارة أخرى ك »أولياء الله الصالحين » يدّعون فضح الفساد والمفسدين والفاسدين.
في هذا الإطار، أصبح نسخ وثائق الإدارات وعدة مؤسسات « طالية » شبكات التواصل الاجتماعي وغير الاجتماعي، حتى أصبح المواطن بقوة القصف ليلا ونهارا، لا يفرق بين حالات « الظلم الحقيقي » وحالات « استغلال النفوذ والتحايل على القانون وتضارب المصالح »، وحالات « تصفيات الحسابات » وما أكثرها، ومناورات لخدمة أجندات سياسية خارجية، واضعا الكل في سلة واحدة ووحيدة عنوانها « الفساد ».
وقد سبق للأستاذ مصطفى العلوي رحمه الله أن حكى في إحدى كتاباته في ركن « الحقيقة الضائعة » ، أن مواطنا انتفض عندما سمع كلاما يقول: « كثر الفساد في البر والبحر « ، (انتفض هذا المواطن) قائلا: « حتى عندنا في الجبل ».
والآن يبدو أن هناك مناورات لتضخيم هذا الفساد وتحيينه ليصبح مسايرا للعصر (جيل جديد من الفساد) ، ليتم بعد ذلك تعميمه وتطعيمه بفساد آخر « يتجدد على مدار الساعة » على شبكات التواصل الاجتماعي وغير الاجتماعي، ما يجعله أكثر فتكا بالبلاد والعباد.
هذا الوضع الذي يزيد ضبابا وخطورة بغياب التواصل لا يخدم مصالح البلاد والعباد، ويسيء عاجلا أو آجلا إساءة بليغة لصورة البلد ونظامه السياسي، ولمختلف مؤسساته واستقراره الاجتماعي.