في الحاجة إلى إعادة تفكيك اللاهوت السياسي؛ فلسطين » أرض الميعاد » بين التاريخ والتيولوجيا:
بقلم سعيد ألعنزي تاشفين :
من حق الشعوب التواقة إلى التحرر والإنعتاق أن تحتجّ على الغطرسة الإسرائيلية من جراء تداعيات الحرب بين طرفين لا تستقيم المقارنة بينهما ، إذ لا قياس مع وجود الفارق بين حركةِ مقاومةٍ مشروعة وكيان مسنود من جهة القوى الإمبريالية العظمى على حساب شعب أعزل . وطبيعي جدا أن تنتفض مشاعر العروبة والإسلام ، ومعهما كل الضمائر الإنسانية الحية ، تحديداً من لدن الجماهير بالأوطان الموصوفة بالعربية ضد ما تسميه الإحتلال الإسرائيلي ؛ لكن من الواقعية كذلك ، في المضمار ذاته ، حسن إخضاع زخم الإنطباعات والوجدان للرقابة العقلية خلف تناقضات الميزاج والمخيال ؛ ذلك أن رفع الشعارات التحررية والصّدح بطلب السقوط للصهيونية لا يُغني نفعا واقعيا في خضمّ التحالف الإستراتيجي بين القوى العظمى تحت املاءات زوج الولايات المتحدة الأمريكية – بريطانيا منذ انعقاد مؤتمر بال بسويسرا نهاية القرن التاسع عشر الذي كان رحِم ميلاد الحركة الصهيونية ، نحو وعد بلفور المخطط له أمريكيا والمنفذ بريطانيا عام 1917 الذي يصادف نجاح ثورة أكتوبر بزعامة فلاديمير إيليتش أوليانوف الملقب ب » لينين » التي أسفرت عن ولادة الاتحاد السوفياتي الذي لم يعجز عن دعم ميلاد اسرائيل خدمة لمطالب يهود روسيا القيصرية ويهود باقي بلدان البلقان المهاجرة نحو » أرض الميعاد » . فالقضية الفلسطينية تجلٍّ مباشر لانهزام حضارةٍ بدأت ب » اقرأ باسم ربك الذي خلق » ( الآية ) ، ثم انتهت ترقص في » كاباريهات » ريع النفط تحت أقدام الهيمنة الغربية التي بدأت تستأسد على العالم منذ بحر القرن الماضي بفعل ثورة اقتصادية وسياسية خلخلت معالم العالم القديم وفتحت الأبواب على مصراعيها لصالح سيطرة الرأسمالية الغربية الأوربية – الأمريكية على أشلاء أمة إقرأ التي أضحت كالقِصعة التي تَداعى عليها الجياع . فهل ينسى العرب ، أم عفوا يتناسون ، أن سقوط الخلافة الإسلامية بالأناضول ( آسيا الصغرى ) بإعلان تفكيك الإمبراطورية العثمانية ( الرجل المريض الذي لا يرجى شفاؤه ) عام 1923 كان بسبب تواطؤهم مع الإنجليز الذين دعموا ولادة القومية العربية ضد ما وصفته ماكينة التفكيك البريطانية ب » سياسة التتريك » عبر تحريض العرب ضد الأتراك بخطة فرّق تسد لتشتيت الصف الإسلامي ، والتي نجحت فعلا بعد انتفاضات العرب منذ محمد علي باشا بمصر ضد الباب العالي العتماني يإيعاز من هنري مكماهون فيما بعد وغيره من ذئاب الوعي السامي الذين كانوا خلف انبثاق الوعي العروبي بصخب منفلت عن الخلافة الإسلامية وخاضع لإملاءات التاج الإنجليزي ضد حكم عبد الحميد الثاني الذي مثّل نهاية الخلافة الإسلامية بإسطنبول تحت خيانة القومية العربية . أعتبر استنادا إلى حقائق التاريخ أن جدور النكسة العربية بفلسطين بدأت بالخيانة وانتهت بها مما أكد انتصار إسرائيل واستمرار الزحف الذي بدأ منذ 1917 مع بلفور نحو 1948 بتكريس الانتداب البريطاني وإعلان ميلاد اسرائيل المعترف بها بالأمم المتحدة حتى قبل الاعتراف ببعض الدول العربية التي ما تزال ترفع الشعارات ، وفي الضفة الأخرى المقابلة لهم بالبحر الأبيض المتوسط تقبع إسرائيل التي تراكم صناعيا وسياسيا بعيدا عن شرنقات العروبة وأوهام الماضي التليد سعيا منها إلى حسم المعركة ببناء إسرائيل الكبرى على قاعدة حلم » يهودا » .
* فلسطين ؛ ورقة التوت التي تخفي عورة تيولوجيا الحرب :
لا يكفي الرضوخ للمشاعر الجياشة من خلف شاشات الإعلام وبجلسات الرومانسية الثورية وبمسيرات الغضب والانفعال لذرف الدموع تضامنا مع استشهاد المسلمين تحت قصف اليهود تحت حرب دينية ترخي بضلالها على الشرق الأوسط ولا تريد أن تنتهي . ولا يجوز تناول جذور الصراع العربي – الإسرائيلي من دون ممارسة قليل من المسح التيولوجي الذي يميط اللثام عن حقيقة الصراع داخل دوائر ما أسميه ب » اللاهوت التاريخي – السياسي » على جغرافيا » الأرض المقدسة » ؛ ذلك أن الأمة الأولى ما تزال تتحرك وفق نظيمة » يا بَني إسرائيل إن فضلناكم عن العالمين .. » ( الآية ) ، وهذه هي التي يسّرت ولادة ميثولوجيا » شعب الله المختار » التي نهلت ، وما تزال ، من المقدس المتعالي في التّلمود وفي القرآن حتى قصد منح الشرعية للاستيطان على حساب شعب آخر أعزل فوق أراضي فلسطين التي تشكل هوس حلم أرض الميعاد . والأمة الثانية تتحرك وفق نظيمة أخرى غير مغايرة من حيث خلفيتها الدينية على أساس أنها » خير أمة أخرجت للناس .. » ( الآية ) ؛ وهي ما يجعل الاعتقاد بالتفوق العقدي منطلقا انطباعيا للحكم بخلفيات عقائدية على غير المسلمين بالوهن والضعف لكون الإسلام خير الأديان كلها » ومن يتخذ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه » ( الآية ) ؛ وهنا مربط الفرس في تناقضات اللاهوت السياسي الذي جعل الأديان الأبراهامية الثلاثة محطّ منازعات شديدة الخطورة على لبنات السعي إلى احتكار التفوق الديني نحو الخلط الدقيق بين الديني والسياسي والضحية هي الجغرافيا المؤسلمة / المُصهينة قرونا هذه في » أرض الميعاد » التي طالما كانت محط نزاع محتدم منذ المعركة الكبرى بين أبراهام ( النبي إبراهيم عليه السلام ) والنمرود ، مرورا بالبطولة الكبرى لصلاح الدين الأيوبي ، إلى تضحيات كتائيب عز الدين القسام راهنا داخل روابط المقدس المتعالي الذي يؤطر كل حيثيات الصراع ضمن » مورد النزاع » كما يقول الأصوليون الذي هو المقدس الديني بكل إفرازاته السياسية – الجغرافية – التاريخية – الإثنية – الإيديولوجية وفق قواعد تديين التاريخ وأسلمة الجغرافيا من جهة ، وتهويد التاريخ وصهينة الأرض من جهة ثانية ؛ وما هذا كله إلا تمظهرات جبل الثلج العائم في محيط السرديات اللاهوتية الكبرى المؤطِّرة للصراع العربي – الإسرائيلي فوق الأراضي » المقدسة » على طول الشرق الأوسط المنكّل به .
* في مأزق السياق الحضاري الراهن ؛ انكشاف شعرة معاوية بين الديني والسياسي :
بين الواقع بتناقضاته ، والحلم بإغراءاته؛ مسافات شاسعة لا يدركها إلا ما سماه إيمانويل كانط بالعقل العلمي العملي ، أو ما سماه أوغست كونط ، في موضع آخر ، بالمرحلة الوضعية التي يجب أن تَجُبّ مرحلتي اللاهوتية والميتافيزيقية في إدراك المعنى واستنتاج الفهم والتأويل في التعامل مع الأحداث والوقائع . والقصد هنا يذهب منهجيا نحو ضرورة تجاوز خطابات الجمهور بما تتسم به من حماسة ورباطة الجأش شفويا على امتداد انتفاضات المزاجيات العامة بحس وجداني منفلت عن كل شروط الواقعية كما ينعدم في تلك الخطابات على طول العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكارتا ، نحو اعتماد وعي تاريخي منهجي مجرد عن الانفعالات والانطباعات التي تشكل الضربة الموجعة لأحفاد الحضارة المحمدية على طول التاريخ على نقيض ما يتميز به أحفاد حضارة موسى من احتكام ذكي إلى العقل البرغماتي والتخطيط الواقعي ومراكمة دواعي النصر المبين وفق ما سماه مالك بن نبي ب » دواعي النهضة والأخذ بشروطها » وهو ما صرح به هيرتزل ذات زمن مؤسِّس حين أكد أن بناء قوة يهودية كبرى صار وقتها مطلبا مستعجلاَ . قد يبدو أن الاستنتاج هنا منحاز إلى طرف على حساب آخر، لكن محكمة التاريخ وحججها لا تدع مجالا للريبة بمقياس ما راكمته اسرائيل من طفرة كبيرة علميا وسياسيا ؛ فهي القوة الصناعية التي فرضت نفسها دوليا ، وهي كذلك القوة الديموقراطية التي تنتصر لحقوق الشعب اليهودي وتحاكم الوزراء إذا أخلّوا بحماية الوطن وتَحرِص على حماية المال العام خدمة لبناء وطن قومي لليهود الذين عاشوا تاريخيا حروب إبادة ، على نقيض مجتمعات إسلامية بالخليج ما تزال تُرتهَن بالطائفية والقبلية وكل النعرات المنتمية إلى الجاهلية الأولى . فهل يا ترى يليق المقارنة علميا ، وبالمؤشرات ، بين بلدان الخليج العربي ؛ هذا الوريث المباشر للحضارة المحمدية دون استحقاق ، والكيان الإسرائيلي الذي يغزو الفضاء وينتج طائرات الدرون وطائرات » F 52 » التي تمارس الإبادة الجماعية على أحفاد صلاح الدين الأيوبي وفق شروط اللعب التي لا تضبطها حماس حليفة الصفويين على هامش نحيب الأمة الإسلامية بموت الشهداء والتي تخصصت في إنتاج حضارة الشفهي كما استنتج أدونيس الذي لم يذهب بعيدا عن استنتاجات محمد عابد الجابري الذي أكد أن العقل العربي لا يتجاوز ثلاثية » الغنيمة / القبيلة / العقيدة » وهي مربط إخفاقاته كلها . هل يعلم العرب أن أمة إقرأ ما تزال ترزح تحت طقوس الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة منذ قرون من الصراع على امتداد جغرافية الأمة المحمدية التي قتلت فيها الخلافات المذهبية ما لم تقتله نيران » أعداء الإسلام » منذ ما سماه هشام جعيظ ب » الفتنة الكبرى » القديمة / الجديدة وبتداعياتها المتفرعة وإلى الأن ؟! أم تراهم لا يعلمون أن تقديم الرئيس صدام حسين قربانا لمقصلة الإعدام التي أعدّها التحالف المُضمر الصفوي – الأمريكي – الصهيوني كان بتمويل منهم أنفسهم حين زغردوا لإعدامه ومنحوا على إثرها العراق عن بِكرة أبيه كعكة سائغة لصالح مقتدى الصدر الصفوي ومن يروم معه من أبناء ولاية الفقيه جعل » قُمْ » عاصمة للتديّن الشيعي على منوال كل الصفويين المسلمين المتحالفين مع الشيطان ضد السّنة الذين كفَروا بهم حتى كفّروا أبا بكر وعمر كما راح السِّسْتاني وغيره من » علماء » الشيعة داخل دوائر ولاية الفقيه المتوافقة سرّا مع الصهيونية ضدا على الجناح الإسلامي السني المستهدف !! هل تناسوا أن إعدام صدام حسين فجر عيد الأضحى لا يخلو من دلالات ورموز أنتروبولوجية جليلة تفيد عودة الصراع لمنطقة ما بين النهرين ( الميزوبوتاميا ) في اتجاه أرض الميعاد ( فلسطين ) داخل قوالب اللاهوت السياسي كما بدأ مع الديانات الثلاث اليهودية – المسيحية – الإسلام ؛ وكأن هذه الديانات هي أصل العلة الكبرى في اللاهوت السياسي الأكبر كما فهمه باروخ سبينوزا الذي انتفض على تلمود اليهود خلال القرن السابع عشر ثم لقي من جراء ذلك مضايقات كبيرة ، وحتى إن الحرب ، إلى الأن ، عناصرها الثلاثة هم اليهود الذي تحوّلوا إلى صهاينة والمسلمون الذي أصبحوا حركات إسلامية ( حماس = الحاء يعني الحركة + الميم تعني المقاومة + الألف والسين تعني الإسلامية ) والمسيحيون الذي يراوغون بدهاء بينهما ؛ وبالتالي أصبح الصراع من جديد دينيا بين ورثة موسى وورثة محمد ( وعلى كل الأنبياء السلام ) ؛ وبينها برزخ لا يبغيان يُمثله حفدة اليسوع الذين تاهوا بين طرفي المعادلة فالتزموا الصمت اليقظ والحياد الحذر على طول المسافة الفاصلة بين مصر الأقباط ولبنان الدروز نحو القدس – أورشليم حيث طرفي الحرب المقدسة المسلمين واليهود .
وحسبي ، في معرض هذه الأركيولوجيا اللاهوتية ، إن الحرب ما كانت يوما حربا بين دولة مستعمَرة وكيان مستعمِر فحسب كما يسوّق لذلك الخطاب الإعلامي المستهلَك بنهم في دهاليز الجهل المؤسس كما أكد أولفيي روا هذه المرة في رزنامة الترافع العربي على شرعية القضية ، بل في العمق تمتح الحرب من السرديات الدينية الكبرى منذ العهد الأبراهامي ( إبراهيم عليه السلام ) إلى الأن ، وبتجليات متنوعة وبأشكال كثيفة من أنماط الصراع ثقافيا – هوياتيا واقتصاديا – عسكريا وتكتيكيا – استراتيحيا . وحيث إن الصدفة لا تحكم التاريخ ، فإن توقيع اتفاق التفاهم بين دول إسلامية هي السودان والإمارات والمغرب مع إسرائيل كان تحت مسمى » اتفاقية أبراهام » تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة وفق محددات العهد الجديد كما وضعه » كوشنير » الشاب المحنك صِهر الرئيس دونالد ترومب » الذي لا شك يعتبَر ( أي كوشنير ) قارئا جيدا للتاريخ الديني الذي لا يوليه العرب أدنى اهتمام في إعادة ترتيب خريطة الوعي القومي راهنا . وعليه فوصف الاتفاق بالأبراهامي لا تنعدم فيه حمولات اللاهوت السياسي كما ولد وترعرع في الشرق الأوسط منذ عهد النمرود وانتصار النبي إبراهيم من المحرقة الكبرى ، إلى التاريخ الراهن الذي ينهل سيكولوجيا من دهاليز سرديات الديانات الثلاث منذ ابراهيم نحو موسى إلى عيسى ثم محمد ما بين الجزيرة العربية ( أرض المتن المحمدي وصراع قريش ويهود بني قريضة ) ، وفلسطين ( أرض الميعاد التلمودي = وعد موسى الأكبر ) ؛ وكأننا من جديد أمام رِحلة النبي إبراهيم من فلسطين نحو الحجاز بواد غير ذي زرع مع زوجه هاجر رديفة سارة ؛ والثنائية ( هاجر – سارة ) هنا كما يضبطها زواج النبي إبراهيم تفيد أنتروبولوجيا أن الصراع ما يزال ثنائيا بين العرب واليهود لِما يحمله الرقم إثنان من معاني تفيد التناقض والصراع والثنائية التراجيدية القديمة – الجديدة ؛ وهذا البناء السامي ( عرب – يهود ) أيضا لا يخلو من دلالات ورموز بما يدفع أي مهتم إلى ضرورة تناول كتاب عبد الله العروي » السُّنة والإصلاح » لما بين ثناياه من بنات أفكار تنهل من سرديات اللاهوت الأبراهامي بمنطق تحليلي رصين من هذا الباحث الذي لمّح وأحسن تلميحًا والذي تقرأه إسرائيل لا ريب ولا يقرأه حتما العرب والمسلمون .
* مقترحات في البراكسيس لمعالجة الحرب المقدسة بين الأشقاء الأعداء اليهود / العرب :
من السهولة بمكان البقاء في حدود سياجات الكهف كما رسم أفلاطون في معرض تركيبه لأسطورة الكهف المثيرة للمعنى ، ذلك عبر رفع شعارات تُسقط إسرائيل وتُحيي فلسطين . مثل هذه الشعارات تنطلق من مزاج فردي – جمعي ملائم لحالة الانهيار الحضاري الذي تنفلت عنه انفعالات حُبلى بردود فعل متأزمة لدرجة تحاول استثمار الله ( سبحانه مع موفور التعظيم ) كقوة ميتافيزيقية عليا في تقوية الجبهة ضد العدو الإسرائيلي وهو ما يجده صداع في بنيات الجهل المقدس كما أفاد محمد أركون . نتفهم مثل هذه الردود إزاء ما تمارسة إسرائيل على غزّة من قصف كثيف بمقدار حبات الدمع التي درفتها أمة اقرأ تحت قسوة الهجوم العسكري الكاسح على حركة مسلحة بسيطة تدافع عن أرضها وفق ما يتاح لها من شرعية تاريخية – دينية وما يُعدّ لها من قوة ومن رباط الخيل . ولست ، ها هنا ، أنازع اختلاف الشرعيات بين طرفي المعادلة ، بل ، بالأحرى ، أروم تجاوز سقف الوجدان بما لها من انطباعات سائلة جارفة ، نحو بناء موقف متسم بالواقعية وبالبراغماتية بمنأى عن تشنج عضلات العقل تحت وطأة انجراف العواطف تماهيا مع زخم الإنفعال الشعبي كما كشف سابقا السوسيولوغ غوستاف لوبون في متنه » سيكولوجيا الجماهير » وهو يحلل سلوك الجمهور تحت تأثير المزاج الذي يغذي الانفعالات ضد العقل والفهم السليم . ولأن عرض الحل المقترح لن يتجاوز حدود الحلم كذلك لكون تيار الهيمنة كما يتم إنفاذه من لدن إسرائيل أكبر من كل الإنتظارات الفردية والجماعية ، فإن القناعة تحط الرحال في مفارقة تساؤلية على الشكيلة التالية :
– هل تكفي الشجاعة المتوافرة لدى حركتي حماس وجهاد الإسلاميتين لفرض التحدي على قوة صناعية بمستوى إسرائيل ؟! أم أن تركهما تعلنان الهجوم ( المباغت ) على كيان يمتلك أحدث التقنيات التكنولوجية في مجال التجسس يعتبر خطة عسكرية معدّة سلفا لتقديم المقاومة بحلّة الإرهاب قصد امتلاك مشروعية نسف كل مقومات البقاء لمنطقة غزة المحادية للحوض المتوسطي الذي طالما يسيل لعاب تحالف تل أبيب – واشنطن – لندن ؛ وبالتالي خططت إسرائيل عبر كمين عسكري دقيق عن علم مضمر وبجهل مفتعل ، ونفدّت حركة حماس بحماس منجرف وبهوس غير مضبوط عسكريا ؛ وبالتالي سيتحقق تدمير غزة بشكل شامل لصالح وصول إسرائيل إلى حدود البحر المتوسط بمحاذاة مصر وهذا هدف منتظر منذ زمان تحت خطط التوسع الجيو – استراتيجي .
– كيف يمكن ترتيب مُحصّلات الحرب في ضوء تحكم الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن وفي الأمم المتحدة عامة ، ومعها كل القوى العظمى التي نجحت في توريط روسيا بجلال قدرها في وحل الحرب ضد الأوكران التي لن تنتهي إلا في الأمد المتوسط في أقل تقدير ، لكونها حرب مؤسسة على لبنات الاستنزاف الاستراتيجي للغريم التقليدي لحلف الناتو بقيادة العام سام ؟! أم ترى أن المقاومة الفلسطينية لا تدري أن إبداء إسرائيل لشيء من الضعف التكتيكي كان بهدف رسم صورة سلبية عنها ( أي المقاومة ) ونزع مشروعية الدفاع الشرعي عنها عبر نهج بروباغوندا دقيقة جدا لإقناع العالم أن إسرائيل « الضحية » تعاني من « خطر إسلامي همجي » !! وهذه فرضية تنتشر بيُسر لدى شعوب العوالم البعيدة بالشرق الأقصى الأسيوي وبدول الباسفيك وبأمريكا اللاتينية خدمة لأجندات التكتيكات العسكرية الأنجلو – صهيونية التي تسخّر الإعلام العالمي لتشويه العدو أولا ثم لشرعنة تحويله فيما بعد إلى حطب جهنم درء للعار الذي يلازم « شعب الله المختار » ب » أرض الميعاد » ؛ وهنا تكتسب حرب الإبادة » شرعيتها » ك » دفاع شرعي » ضد هجومات « الإرهاب » الإسلامي كما تمثله كل من حماس وجهاد على نقيض فتح المهادِنة ؛ وكل هذا تكتيك عسكري يرنو امتلاك شرعية تدمير غزة كليا كأخر قلاع الممانعة رغم ما يسجل عليها من ملاحظات !!
– إذا كانت إسرائيل تؤسِّس لتحالفاتها وفق قواعد خطيرة قوامها الصناعي والعسكري والاقتصادي ، ثم الاستراتيجي تبعًا ، عبر شركات عملاقة تغزو العالم بما فيه الدول الإسلامية ، لدرجة أن اللوبي اليهودي يتحكم في مقادير المطبخ السياسي الأمريكي وفي الاستثمارات بأروبا وآسيا ، فإن فلسطين بالمقابل تراهن على عالم عربي جريح ينزف دماءَ الخيانات بين الأشقاء الأعداء كما هو الحال بين المملكة العربية السعودية ، راعية المد الوهابي ، وقطر القزم ديموغرافيا والعملاق ماليا راعية المد الإخواني ، وبينهما الإمارات العربية التي تشكل جحيم المؤامرات والدسائس لصالح العرب حينا وضدهم أحيانا أخرى ؛ وبالتالي تستند ، أي فلسطين ، إلى حلفاء لا شيء يربطهم غير المناوشات والمشاحنات القديمة – الجديدة كأننا في حرب داحس والغبراء المتجددة والتي تنمّ عن تخلف عربي كبير ضارب الأطناب في النعرات الإرتكاسية الأفقية التي لا تريد أن تندمج في تحالف استراتيجي مناسب لكسب معركة الوحدة ضد مخططات تقسيم المقسّم وتجزيئ المجزئ كما وُلدت منذ معاهدة سايكس – بيكو ( التحالف الفرنكو – بريطاني ) عام 1917 التي تُجدّد نفسها بأشكال أخرى من الفوضى الخلاقة كما حصل مؤخرا مع تقسيم السودان وتحويل ليبيا وسوريا إلى دول فاشلة وتقديم العراق هدية للصفويين ؟!
– أليست الشعارات التي تُرفع على طول العالم العربي دليلا على انحطاط حضاري سببه تخلف الأمة وسقوطها في منزلق التبعية لدواعي الفساد والتحكم واستئساد العائلية والطائفية بمجالات الجزيرة العربية وبالشرقين الأوسط والأدنى وفق القواعد التي حدّدها محمد عابد الجابري في ثلاثية » الغنيمة / العقيدة / القبيلة ؟! وبالتالي كيف يمكن تجاوز مرحلة البكاء تحت أطلال القصف ، نحو امتلاك مسببات النهضة التي تجد مقوماتها في تجاوز أعطاب التجربة العربية التي كانت تاريخيا محط الحروب العربية – العربية من مداخل الشوفينيات الطائفية والمذهبية والعقدية مما كلف أمة اقرأ ضريبة ثقيلة هي الخضوع للاستعمار ورهن مقدرات الشعوب بين مخالب الشركات الإمبريالية بحثا عن الشرعية التي تُفتقد تواليا بعلة الإخفاق في التمرين الديموقراطي المعطوب في تجربة العرب المريرة ماضيا وراهنا بما وسّع الهوّة بين الشعوب والأنظمة ؛ فجعل الأولى تبحث عن الثورة دون شروطها الموضوعية ، وجعل الثانية تبحث عن الهدنة لدرجة الانصياع وفقدان السيادة ؛ فحصل الشنآن الكبير وضاعت السيادة وهيمن العدو .
لعمري ، ختاما ، أن ما يقع مع هذه الحرب الضروس يفيد أن همجية الغرب منذ ميلاد الاستعمار عميقة جدا ، وهو ما يفضح شعارات حقوق الإنسان والرفاه التي طالما يتشدق به الغرب الرأسمالي المهيمِن أمام أنظار العالم الإسلامي الضعيف المتخاذل الذي ، من آسف ، لا يقرأ لابن خلدون والتوحيدي وابن رشد ، ولا يعرف مخططات كيسنجر وصمويل هنتنغتن وفرنسيس فوكوياما وبرنارد لويس وكوشنير ، بل يضل يعيد أسطوانة الأمجاد الذهبية كآلية سيكولوجية دفاعية وكهوس وجداني يخفف عن الإنسان العربي خيبة أمله من كل هذه المآلات التي تجعله مناسبا لما ورد في الحديث النبوي » توشِك الأمم أن تَداعى عليكم كما تَداعى الآكلة على قِصعتِها ، فقال قائل آمن قلّةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟! قال لا ، بل أنتم كثر ، ولكنكم غُثاء كغثاءِ السَّيل » .
وهكذا أستنتج ، صفوة القول ، أننا فعلا أمام أعطاب اللاهوت السياسي كما عاشه العالم العربي الإسلامي عبر دراماتيكا الإفلاس الحضاري وتراجيديا الغيبوبة الفكرية بما يجعل فلسطين تؤدي الضريبة غالية الأن بالشهداء الأطفال وبالنساء الثكالى وبالدمار العظيم لتراث غزة الحضري ؛ وهو ما لا يُفقِد المقاومة شرعيتها مرة أخرى بالبكاء والنحيب عربون إخفاق الأمة الجماعي ؛ وعليه أدعوكم للبكاء والنحيب يا أيها الذين ٱمنوا ، ونحن ننتمي جميعا تعسفا إلى أمة خوصصت كل شيء وأمّمت البكاء ؛ وكفى بالبكاء مصيرا ما دمنا نعجز عن فهم أن منطلق الانتصار الحضاري يوجد داخل الدول العربية نفسها من خلال محاربة الفساد والتحكم ، وعدم مراهنة خيرات الشعوب لصالح الغرب الرأسمالي من أجل نيل رضى القوى العظمى ، مع ضرورة تجاوز الاحتكارية التي تجعل جل الدول العربية دُولَةّ بين الأغنياء منهم ؛ ثم تحرير الشعوب من رِبقة الجوع والخوف ضمن مصالحات دول – شعوب حقيقية ، وهذه هي المنطلقات المنهجية لتحرير فلسطين بدل رفع الشعارات المخصية خلف انهيارات المدن واستشهاد الأطفال والشيوخ والنساء في حرب لا يمكن أن تنتهي إلا بإرجاع غزة إلى العصور الوسطى خدمة للصهيونية التي تحكم العالم عبر لوبي قوي ومؤمن بقضيته ومتسلل بدهاء نحو كل قلاع القرار العالمي بعيدا عن شرنقات العروبة والإسلام السياسي ضمن أوهام التفوق الرومانسي المنحرفة عن جدلية التحليل الملموس للواقع الملموس .