صناعة الأغبياء: الموت المبرمج للمدرسة
بقلم سعيد ألعنزي تاشفين
يذهب جون بول بريغلي Jean- Paul Brighelli في كتابه » الموت المبرمج للمدرسة » إلى أن المدرسة أضحت متخصصة في صناعة البله ( Le crétin ) ، وذلك بين ثنايا كتابه الجديد الذي أثار زوبعة من ردود الفعل بفرنسا التي يعترف بريغلي أن المدرسة الفرنسية لم تعد في خدمة تكافؤ الفرص ، بل أصبحت تنتج البله والغباء في صفوف الفقراء خاصة على نقيض أبناء الأثرياء الذين يدرسون في » مقاولات مدرسية » متخصصة في تربيتهم وإعدادهم للانقضاض على المناصب السامية في بنية الدولة .
يقول جون بول بريغلي:
و » هؤلاء الذين وُلدوا في الشارع سيبقون فيه منذ الأن إلى الأبد؛ ذلك أن المدرسة أصبحت متخصصة في صناعة البله « .
إن بريغلي قدّم مسحا شاملا وكاويا كذلك في الأن ذاته للمدرسة من خلال افتحاص معرفي للوضع التعليمي توّصل به إلى حقائق دامغة لم ينجح حتى خصومه في دحضها ضمن ما سماه ب » المدرسة التي تُعزّز جهل الفقراء » .
** يقول بورديو :
» المدرسة وسيلة وأداة في يد الطبقات الحاكمة لإنتاج ولمعاودة إنتاج الثقافة السائدة، وكذا إعادة إنتاج نسق العلاقات الذي يخدم مصلحة الطبقة المهيمِنة » .
يذكّرني جون بول بريغلي بما سلف أن كتبه بيير بورديو عن المدرسة منذ زمن غير يسير عبر سرد أدوار إعادة الإنتاج الذي تكرسه المدرسة من خلال نسق التعليم في شكله الاجتماعي الذي يعيد فرز البنى الطبقية نفسها. إن بورديو Pierre Bourdieu كان ثوريا جدا في فضح مآزق السياسة التعليمية بفرنسا حتى إنه إلى ، جانب ميشل فوكو وجون بول سارتر ، كان يصدح بالشعارات بفرنسا عام 1968 لصالح المدرسة العمومية ، داخل بوثقة سلطة التحكم في مداخل الفرز الطبقي بما يجعل المدرسة أداة حقيقية لتكريس الحيف الاجتماعي بدل أن تكون فعلا أداة لضمان تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب . وبذلك يتشكّل » الهابيتوس » الذي يجعل التلميذ – الطالب الفقير ينظر إلى المدرسة ( التمثلات ) كعقاب نفسي لكونها لا تتيح أمامه غير الانخراط التعسفي في القوالب ذاتها لإعادة فرز الهيمنة والتشكل الطبقي الصلب .
** يقول ميشل فوكو:
» تمارس المدرسة أدوارا خطيرة تتجسّد في الهيمنة باسم العقل، وصناعة السيطرة باسم التربية . إنها شكل خطير للفيزياء الدقيقة للسلطة عبر خلق الأجساد المُذعنة والعقول المنمَّطة « .
يبدو لي، أولا من خلال بيير بورديو، وثانيا عبر ميشل فوكو Michel Foucault ؛ إن المدرسة ليست فقط مجرد مؤسسة إدارية – تربوية تنتج المعرفة وتُكيّفها ، بل هي ، كما يذهب صاحب » الجريمة والعقاب » ، بمثابة » ثكنة عسكرية » تمارس أدوارا رقابية خطيرة هدفها ترويض الأفراد وجعلهم ذواتا تخضع للسلطة وتخدمها بهدف فرز » مجتمع انضباطي » يسهل التحكم فيه والسيطرة عليه .
المدرسة عند فوكو شكل من أشكال السلطة تشتغل على مستويات المراقبة والضبط والتطويع من جهة، ومن جهة ثانية من خلال التهميش والإقصاء والعزل والتوبيخ المشرعن بواسطة الامتحانات ونظام التقويم.
** مغربيا ؛ أمام مأزق المدرسة العمومية الوطنية حاليا تحت نازلة الخلاف بين مختلف الأطقم المدرسية والوزارة – الحكومة ، نسجل طغيان خطابات السوق التي تروّج للبداءة والشعبوية ضدا على دينامية الجسد التعليمي الذي ينتفض ضد متن قانوني مشحون بكثير من الإيحاءات المقاولاتية التي تفيد في فهم منحى « الإصلاح » . وبدل أن يتشكل نوع من الوعي لدى النخبة من الباحثين قصد فهم خلفيات ومناحي الحركية التعليمية ، نجد أن قضية التربية والتعليم أضحت تثير نشوة من هبّ ودبّ للإدلاء بالرأي وهو ما كرّس استئساد نوع جديد من الخطابات الشعبوية التي تحاكم الأستاذ بقساوة خدمة لرهانات السعي الناعم إلى تفكيك الدولة الإجتماعية تحت ضغط املاءات المؤسسات المالية الدُّولية التي تمارس تحكما فجا عبر فرض إصلاحات مقياسية هدفها تفكيك لحمة الشعوب خدمة لأجندات التفكيك مستقبلا ضمن ما أسميه ب » الجيل الثالث من الفوضى الخلاقة » التي لا شك ستحل بتجارب دول أخرى قصد أجرأة التفكيك لضمان إعادة التركيب لصالح بنية التحكم الأوليغارشي العالمي .
إن أزمة المدرسة – الأستاذ حاليا مع حكومة يقودها حزب ليبرالي ولد في بحر سبعينيات القرن الماضي داخل دوالب الإدارة ، بالتوافق مع حزب – الوافد الجديد كما لُقّب إعلاميا في بدايته ، إلى جانب حزب محافظ معروف بكثير من النفعية تاريخيا ؛ تفضح غياب الطبقة المثقفة الأكاديمية والسياسية القادرة على الدخول كطرف ثالث من أجل تجويد النقاش العمومي وبناء وساطة حقيقية بين الحكومة والشغيلة التعليمية بما يحمي الدولة من أية تداعيات من جراء المساس بسؤال الأمن المدرسي الذي قوامه المعلم – الأستاذ . ومن آسف في مجتمع أنتج العروي وطه عبد الرحمان وكمال عبد اللطيف وعبد الإلاه بلقزيز، وغيرهم كثير من رواد الفكر والعقل ، نلمس تهاوي النقاش حول المدرسة إلى صنف جديد من التافهين الذين يستغلون هذه الأزمة التي تمس الكيان العميق للدولة لصالح تحقيق » البوز » عبر لايفات باليوتيوب لجني أرباح الأدسنس !! .
هكذا نفهم أن أزمة دامت زهاء ستين يوما عن يوم أمام أنظار مختلف مؤسسات الحكامة والوساطة المنصوص عليها دستوريا !! ونتساءل:
+ كيف نفسر عجزنا الجماعي عن إيجاد تسوية حكيمة لصالح المدرسة – الأستاذ، بما جعلنا جميعا نتصارع وفق حرب الجميع ضد الجميع ضدا على الزمن الاستراتيجي للدولة الذي تتحمل كامل مسؤوليته المؤسسات وليس الأفراد الذين يحتجون سلميا بحثا عن الأمن المهني ؟!
+ الدينامية الأستاذية لا تمس بالمطلق بثوابت الدولة ولا بخياراتها القومية ، بل هي دينامية تروم إسماع صوت » أصحاب الدار » ؛ أي نساء ورجال التعليم ، من نظام أساسي حلّ عليهم فجأة دون سابق استئذان ، وهو ما خلّف موجة من المخاوف المشروعة سيما أن كل دول العالم تخضع لنسق من الضغوطات من لدن المؤسسات الدولية ، وبالتالي يحق للأساتذة عرض تخوفاتهم على منصات النقاش العمومي بحثا على كل ما قد يضمن لهم الأمن المهني بسلام ؟!
+ هل بلغنا فعلا، تحت تعسف المسخ، مرحلة الخوف من أبناء وبنات الوطن !! والاطمئنان، على نقيض ذلك، لإملاءات المؤسسات المالية الدُّولية حتى تتوتر العلائق بين الجمهور الأستاذي والحكومة لهذا الشكل وأمام أنظار الجامعة المغربية، وأمام كل مؤسسات الدولة (مؤسسات الوساطة والحكامة) بما يفضح عجزا خطيرا في بناء وساطة سليمة بين المغاربة أنفسهم أمام أنظار العالم ؟!
ختاما، أعتبر أن المساس بنساء ورجال التعليم هو مباشرة مساس بإحدى أهم أدوات الدولة في ضمان ديمومتها واستمراريتها، بحيث لا يقل دور المعلم -الأستاذ عن دور الجندي ورجل الأمن والقاضي .. وهم جميعا أدوات الدولة وميكانيزمات ممارسة السلطة الناعمة بشرعية التعاقد المعياري الذي هو الدستور. وعليه لا أشك أن ما بلغناه من عبث موضوعيا تُلام فيه الحكومة أكثر من الأساتذة بنا يفيد أننا لسنا بمأمن (هواجس الخوف بعلة ضعف الثقة) ما دُمنا نحن أبناء الوطن الواحد تحت إيمان جماعي بثوابت جامعة مانعة عاجزين عن التقعيد لمفاوضات حقيقية تنتهي بإنصاف المدرسة من خلال إنصاف الأساتذة الذين هم أولا وأخيرا أبناء الدولة ؛ منها وإليها .
** الصورة لكتاب » جون بول بريغلي » حول » صناعة البله _ الموت الممنهج للمدرسة