النبوغ المغربي و مؤامرة البيكاسوس ..
سعيد ألعنزي تاشفين
لقد كان البيكاسوس كافيا لإزالة القناع عن طبيعة التحديات التي تتهدد المغرب على ضوء القيمة التي أصبحت له مؤخرا . و يبدو أن الأمر في ظاهره عذاب و في باطنه رحمة لأنه يبرز طبيعة الأعداء الذين يشكلون خطرا من مختلف الدول المجاورة جنوب الحوض المتوسطي و شماله . ففرنسا ، رغم قوة الروابط التي تجمعها بالمغرب ، و رغم كونها الشريك الأول والمستفيد الأكبر من المَناخ الاقتصادي المنفتح الذي يضمنه ، أضحت تضيق درعا من الدينامية التي يشهدها المغرب طيلة السنوات القليلة الماضية ، وذلك عبر عدة تحولات منها التخلص التدريجي من التبعية الاستراتيجية للميتروبول الذي طالما مثلته باريس ، علاوة على قدرته على تنويع شركائه سيما مع التقارب الحاصل مع إسرائيل التي تشكل قوة اقتصادية هائلة تنافس فرنسا في مجالات متعددة في مقدمتها الفلاحة و بيع الأسلحة الذكية ، هذا ناهيك عن الدفع قدما بعمليات التلقيح الذي نجح فيه المغرب بشكل جعل السوق الصحية الإفريقية تنتظر الإنتاج المغربي من الترياق للقيام بعمليات التلقيح تصديرا نحو بلدان جنوب الصحراء التي تأخرت في مواكبة توصيات المنظمة العالمية للصحة في باب مقاومة الجائحة . وإذا كانت فرنسا تعتبر التحول النوعي الحاصل في السياسة الخارجية للمغرب تهديدا حقيقيا للعلائق النمطية التي كانت تضمن لها حصة الأسد بمقياس الربح في علاقتها بمستعمرة تقليدية ، فإن قوى أوروبية أخرى تجد في قدرة المغرب على تجاوز ديبلوماسية الدفاع الشرعي عن مصالحه الاستراتيجية نحو الهجوم المباغت والمتعدد الاتجاهات دفاعا عن حقوقه خطرا حقيقيا قد يفقدها » حقوقها » التاريخية المعتادة كما هو الحال مع إسبانيا . و المغرب باستعماله لورقة القبايل شمال الجزائر يهدف إفحام قصر المرادية بالسلاح نفسه المستعمل ضد الوحدة الترابية للمملكة منذ تشكيل الجبهة الانفصالية في قلب الحرب الباردة، وهو بذلك يوجه رسالة مباشرة لحكومة مدريد مفادها أن قياس القبايل بكتالونيا وبالباسك قد يحقق متاعب حقيقية لدولة لا تريد أن تدعم المغرب بما يكفي لإيجاد تسوية نهائية على قاعدة المقترح المغربي للحكم الذاتي الموسوم بالجاد و ذي المصداقية . ولا مراء أن المغرب باستعماله إذن لورقة القبايل شمال الجزائر يوجه ضربة ديبلوماسية موجعة لكل خصوم وحدته الترابية و في مقدمتهم فرنسا التي تلكؤ في إنتاج موقف واضح و إيجابي لصالح المغرب رغم » تشبتها » بكل قرارات الأمم المتحدة في الموضوع . و لسان حال المغرب يذكر اللاعبين الكبار( فرنسا + إسبانيا ) بملفات عالقة قابلة للاستثمار مثل كتالونيا التي تقض مضجع الإسبان ، غير بعيد من الألزاس واللورين التي ستعزف بكل التراكم الحاصل بين الألمان و الفرنسيين لكون هذه المنطقة الحدودية كانت المشكل الملغوم منذ معاهدة فرساي عام 1919 ، رغم معاهدات التقارب منذ اتفاقية روما عام 1957 نحو اتفاقية شنغن عام 1986 إلى لحظة توثيق الوحدة الأوروبية عام 1992 بمقتضى معاهدة ماستريخت بين أعداء الأمس .
إن قدرة المغرب على الحفاظ على قوته الدبلوماسية الهادفة ، رغم زخم الحقد البيسماركي الذي تعبر عنه الجزائر في كل المحطات الأممية بمكر دبلوماسي مفضوح ، و أخرها ما كان في اجتماع بلدان دول عدم الإنحياز الأممي حيث عمد خريج المدرسة البومديانية إلى استهداف المغرب بشكل مباشر و في تجاوز صارخ لجدول الأعمال ؛ و هو ما يؤكد وقوع انزلاق دبلوماسي خطير تحت وطأة ما عبر عنه العمامرة من محاولة بئيسة للتأثير على الدول الأعضاء ضمن مجموعة عمل بلدان عدم الانحياز الخاص للنظر في عواقب جائزة كورنا قبل أن يحوله العمامرة إلى منصة لتفريغ حمولة الحقد البيسماركي ضد قضية المغرب الأولى ، لا يستساغ من لدن القوى العظمى المتحكمة في مسار المفاوضات حول مقترح الحكم الذاتي ضمن نفر أصدقاء الصحراء . و عليه تكتيكيا حصل بشكل غير مباشر نوع من التقارب الظرفي في محور مدريد – باريس – برلين/ الجزائر تحت تأثير قوة الغريم المشترك الذي ليس سوى المغرب. ولهذا لا غرو أن نجد تلميح المغرب بالقضية القبايلية يقابله مباشرة تحرك مفاجئ لمجموعة عمل ما يسمى « صحافيي القصص الممنوعة » التي يترأسها الألمان و التي تشكلت وجوديا عام 2017 كجمعية غير ربحية أوكلت بنفسها مهما الدفاع عن الصحفيين ضحايا القمع في كل بقع العالم . ومن المشروع التساؤل عن من يمول » مناضلي » القصص الممنوعة ؟ سيما أن القانون الأساسي لهذه المنظمة يؤكد على عدم إمكانية تحقيق الأرباح . و حيث إن الصدفة لا تحكم التاريخ ، حري أن نتساءل عن كيف ثم تحريك الصحافة الدولية انطلاقا من جريدة » العالم الفرنسية » ؟ ضد المغرب من منطلق توظيف برنامج » البيكاسوس » الذي لم يسبق للمغرب أن وقع عقدة أو أبرم صفقة مع الدولة المنتجة لبراءة الاختراع هذه والتي ليست سوى إسرائيل المالكة لحقوق إنتاج ما سمي ببرنامج التجسس البيكاسوس الخاص أصلا بتعقب مجرمي الإرهاب و الجريمة المنظمة . يبدو لنا استنتاجا أن أطراف المعادلة هنا ليست سوى الجزائر و فرنسا و إسبانيا و ألمانيا من جهة ، ضد المغرب و إسرائيل من جهة ثانية .
و مبدئيا، ودون تجاوز لمقتضيات القانون الدولي، يحق للمغرب توقيع معاهدة التفاهم مع إسرائيل، باعتبارها دولة معترف بها أمميا ، لضمان مصالحه في محيط إقليمي متقلب و في سياق عالمي منحرف عن حلحلة الملفات العالقة و في مقدمتها ملف الصحراء المغربية الذي عمّر أكثر . كما يحق له، بمقتضى الحرية التجارية التي تضمنها شروط المنظمة العالمية للتجارة OMC ، استيراد » أسترا زينيكا » من دولة تنافس الاتحاد الأوروبي في غزو إفريقيا. وتنبغي الإشارة إلى أن تصريح المغرب بعزمه إنتاج اللقاح و تصديره نحو البلدان الإفريقية لوحده يكفي مبررا لخصوم المغرب ، محور مدريد/ باريس / برلين ، و لعدوه التاريخي عسكر المرادية ، لتشكيل جبهة معادية للمغرب الذي نجح بجرأة عالية في إرباك كل الحسابات التي لازمت كل هذه القوى المؤثرة أمميا و المعرقلة لمسار التسوية النهائية للملف المفتعل ضد حق المغرب في صحرائه، سيما أن الاستثمارات المالية المغربية بتخوم إفريقيا تسحب البساط من تحت أقدام القوى الكولونيا لية التقليدية التي تمثلها فرنسا و إسبانيا و ألمانيا. وعليه يؤدي بنا منطق التحليل إلى بناء استنتاج مردّه أن ما أشيع من اتهامات مغرضة ضد المغرب بالتجسس باستعمال البيكاسوس لن يخرج عن دائرة المكر الدبلوماسي والتآمر الاستراتيجي ضد التفوق المغربي في استثمار العلاقات مع إسرائيل للدفع قدما بملف مغربية الصحراء نحو التسوية عمليا ضدًا على التسويف الفرنسي – الإسباني ضمن مجموعة أصدقاء الصحراء التي لا تريد حلحلة الوضع المتأزم ، و هو ما يجعل هذه القوى الأوروبية متوافقة مع الجزائر بشكل ما في نهج أسلوب العرقلة الذي قاومته الدينامية المغربية والتي استعجلت فتح قنصليات لعدد من الدول بالعيون المغربية. ولا جرم من القول أن تسجيل المغرب الشكاية لدى القضاء الفرنسي ضد مجموعة القصص الممنوعة وضد أمنيستي، و توكيل صحفي فرنسي للإنابة عن المملكة المغربية ؛ يكفي للتأكيد من كون المغرب ضحية لمؤامرة متعددة الأطراف محبوكة في إحدى العلب المغلقة من أجل تسفيه النجاحات الميدانية التي حققتها دبلوماسية المغرب في غضون السنتين الأخيرتين ، و ذلك عبر التشكيك في مصداقية الأجهزة الأمنية المغربية القادرة على حماية الاستثمارات المغربية بإفريقيا دبلوماسيا و سياسيا و اقتصاديا بما جعل المغرب قوة منافِسة للقوى الأوروبية التقليدية .
إن استهداف المغرب باتهامه بالتجسس افتراء يؤكد أن ما يميز الأجهزة الأمنية المغربية من مشروعية قانونية و من ذكاء استباقي تجسد منذ إعلان هذه الأجهزة للحرب بلا هوادة ضد الإرهاب الذي نجح في تفكيك مئات الخلايا النائمة و تقديم معلومات استباقية للدول الكبرى ، و هو ما ضمن لبلدان ضفة الشمال المتوسطي الأمن بمنأى عن مخاطر الخلايا الإرهابية النائمة ، قد يفيد في فهم الحرب الإعلامية المعلنة ضد المغرب من مدخل التشكيك في شرعية العمل الاستخباراتي المغربي الذي ضمن لأروبا أمنها من مخاطر الإرهاب و ضمن للمغرب اقتحام افريقيا اقتصاديا بفضل التفوق المغربي في باب الاستخبارات الاقتصادية . فكيف تتناسى فرنسا و إسبانيا أنه في الأمس القريب فقط ثم توسيم الاستخبارات المغربية في شخص مديرها العام الذي عبرت له عن امتنانها لما يقدمه من خدمات لصالح الأمن و السلم الأوروبيين ؟ إن الانتقال من خطاب الشرعية حيال الأجهزة الأمنية المغربية نحو خطاب التشكيك يفيد بقوة أن المغرب الذي يتجه بثبات نحو اللحاق بركب الدول الصاعدة يقض مضجع كثير من العواصم التي عجزت عن استيعاب ولادة مغرب جديد منتفض على كل نمطيات التبعية الأحادية لصالح مقاربات جديدة دبلوماسيا و سياسيا و اقتصاديا في اتجاه افريقيا و عبر التفاهم مع إسرائيل والانفتاح على الصين .
و نستخلص ، بناء على ما سلف ، أن تورط منظمة العفو الدولية في انحرافات خطيرة ضدًّا على الحياد و الموضوعية المفروض توافرهما في إنجاز تقارير حقوقية سليمة ، إضافة إلى ولادة هذه الضجة السوريالية من داخل مكتب » صحافة القصص الممنوعة » التي يديرها صحفيون ألمان ، إلى جانب كون الصحافة الفرنسية هي التي بدأت إشعال فتيل الحرب التشهيرية ضد المغرب بمقالات صحفية فرنسية ، و لأن الجزائر أضحت محط عطف فرنسا بعد أن لامس المغرب جراح القبايل التي تشكل ورقة التوت بالنسبة لفرنسا التي تعتبر انفصال القبايل ورقة قابلة للتوظيف مساومة قبل أن يستغلها المغرب للضرب في الصميم .. كلها استنتاجات تفيد جدا في بناء إفادات عملية تؤكد رجحان فرضية المؤامرة ضد المغرب من لدن الأيادي الخفية أروبيا و التي تضيق درعا بما يحققه المغرب من نجاحات تجعله رقما مهما في معادلة الاستثمارات الماكرو – اقتصادية بالقارة السمراء ، علاوة على توفقه الملحوظ في تحريك المياه الآسنة بقصر المرادية بسلاح دبلوماسية الهجوم المباغت ، من خلال استهداف دقيق لشمال الجزائر ، الذي يحاجج قصر المرادية ، الداعم للنزعة الانفصالية ضد حقوق المغرب التاريخية ، بالسلاح نفسه المستعمل بالفهم البيسماركي من لدن العسكر السياسي لصالح النعرة الانفصالية و هو حق الشعوب في تقرير المصير .
فماذا لو استمر المغرب في نهج التعامل نفسه الذي تنهجه الجزائر بشكل مفضوح و إسبانيا بشكل مضمر و فرنسا عبر نهج الحياد السلبي الذي يتخفى خلف الشرعية الأممية من خلال التعبير الرسمي عن دعم انفصال كتالونيا هناك والقبايل هنا ؟
ماذا لو لمّح المغرب إلى منطقة الألزاس و اللورين التي كانت و ما تزال شعرة معاوية بين الغريمين التقليديين فرنسا / ألمانيا منذ عام 1919 لحظة توقيع معاهدة فرساي؟
ماذا لو امتنع المغرب عن تقديم المساعدة الاستخباراتية للبلدان الأوروبية مثار معاداة المصالح المغربية في سياق الجهود المبذولة لمحاصرة الإرهاب و الحيلولة دون تنامي الهجرة السرية و عبور المخدرات ؟
إن مجرد الإشارة إلى المغرب في هذه الظرفية يتيح فرصة الانفلات من كل ردود الفعل الظرفية نحو التأكد من كون التحول النوعي الحاصل في علاقات المغرب مع شركائه هو السبب الرئيس الكامن خلف ميلاد هذه الموجة الجامحة من الاتهامات المغرضة ضد المغرب الذي ما فتئ ينتصر لكل القضايا الدولية العادلة بحكمة و تبصر ، و في مقدمتها الأمن القومي لكل بلدان الاتحاد الأوروبي عامة و لفرنسا كشريك استراتيجي تحديدا . و عليه نتوقع حتما أن تسفر الأبحاث القضائية تحت إمرة النيابة العامة المغربية أو تحت إشراف قضاء التحقيق و قضاء الموضوع الفرنسيين إلى حقائق صادمة بما سيميط اللثام عن وجوه الأعداء الحقيقيين للمغرب الذين يرتعشون من جراء ما حققه المغرب من خلخلة العلاقات التقليدية التي كانت تتحكم فيها المراكز الكولونيا لية التقليدية لصالح علائق جديدة ضامنة لمنطق رابح / رابح كما هو ما الدعم الإسرائيلي – الأمريكي لقضية المغرب الأولى ، مقابل نجاح المغرب في نزع صخرة اللعنة على الكيان العبري الذي يعترف بما للمغرب من قوة لضمان المشروعية عبر توطيد الشرعية لصالح شرق أوسط جديد بعيدا عن نمطية تداعيات وعد بلفور الذي تزكيه خطابات الكراهية التي عمقت خلافات الإخوة الأعداء من أبناء سام .
و حتما نعتبر أن كل مواقف المغرب مؤخرا أضحت إيجابية لعدة دواعي منها كونها حسمت مع دبلوماسية الدفاع الشرعي ، وانتقلت نحو دبلوماسية الهجوم المشرعن بقياس النظير والمماثلة كميكانيزمات قابلة للنفاد ضمن مقتضيات القانون الدولي ، و هي مبررات تكفي لضبط حجم هذا الهجوم العدواني الذي يستهدف المغرب في هذا السياق الدقيق .
وختاما نعتبر أن المغرب سينتصر لا محالة لكونه صاحب قضية مشروعة بالتاريخ و الجغرافيا و القانون، ولكونه يرافع عن مصالحه الاستراتيجية بما تتيحه الشرعية الدولية وفي مقدمتها مقتضيات القانون الدولي ومواد ميثاق الأمم المتحدة . وما علينا كمغاربة إلا أن ننتصر بقوة لأمننا القومي الذي ترعاه الدولة بكثير من الإقدام والشجاعة، و ذلك بتوطيد عرى الدولة في حربها مع العدو المتعدد القديم/ الجديد