من السيف إلى المنشار: وهم الإصلاح الديني في السعودية
عبد الرحيم الوالي
من فتح أول ملهى إلى مراجعة الأحاديث النبوية، ومن الترخيص للمرأة بسياقة السيارة إلى وضع شُرطية « سافرة » لحراسة الحرم المكي، يريد ولي العهد السعودي أن يظهر، لا فقط باعتباره قائدا للإصلاح في بلاده، وإنما باعتباره رائد الإصلاح الديني في العالم الإسلامي.
ربما كان سعيُ الملك الفعلي للسعودية سيكون مشكورا ومبرورا لو أن سموه/جلالته كان نقي اليدين. أما ويداه ملطختان بدماء المعارضين، وأشهرهُم الصحافي جمال خاشقجي، فالقضية فيها نظر. وعندما يتعلق الأمر بجريمة اغتيال خاشقجي بالضبط، فالقضية تتعدى حدود الاغتيال السياسي إلى انتهاك سيادة دولة أخرى، واستغلال الحصانة الدبلوماسية في أعمال إجرامية، وما سوى ذلك مما يعطي لولي عهد السعودية، وللنظام السعودي برمته، سمعة عالمية لا يُحسَدُ عليها.
هذه الخلفية تجعل من الرجل شخصا أبعد ما يكون عن صورة المصلح الديني. فمقابل شعار « وحده النص » الذي رفعه مارتن لوثر، الزعيم الأشهر لحركة الإصلاح الديني في العالم المسيحي، يرفع ولي عهد السعودية شعار « وحدَه المنشار ». وبالفعل، فإن المنشار الذي مزق جثة خاشقجي داخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا، وحده اليوم يُرهب الشيوخ والفقهاء ومختلف القادة الدينيين في السعودية، ويجعلهم يسايرون إرادة النظام في اصطناع قشرة إصلاحية تُخفي باطنه القروسطوي الاستبدادي. بتعبير آخر، ف »الإصلاح » المزعوم الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان ليس نابعا من شروطٍ تاريخية واجتماعية أفرزها التطور الطبيعي للمجتمع السعودي أو للمجتمعات الإسلامية عامة. بل إنه تعبيرٌ عن إرادة النظام السعودي فقط في محو الصورة القاتمة التي رسمها لنفسه ولجميع المسلمين أمام العالم.
فمنذ نشأتها رسميا سنة 1932 عملت المملكة العربية السعودية، بشتى الطرق والوسائل، على نشر الفكر الظلامي في العالم الإسلامي. وبذلت في سبيل ذلك الأموال الطائلة ووضعت منشآتها رهن إشارة قوى التطرف. وتموقعت إلى جانب الأطماع الأمريكية في أفغانستان فانخرطت بكل قوتها في تجييش المسلمين ل »الجهاد » ضد الوجود السوفياتي هناك. وهو المسلسل الذي لعب فيه أسامة بن لادن، الذي كان حينها مقربا من النظام السعودي، دوراً محوريا إذ كان هو المسؤول عن تهجير « المجاهدين » إلى أفغانستان بتنسيق مع المخابرات الأمريكية. وبقية القصة معروفة: رحل السوفييت عن أفغانستان، وانهار الاتحاد السوفياتي، وبقي « المجاهدون » الذين تحول جزء منهم إلى « قاعدة » بقيادة بن لادن والجزء الآخر إلى « طالبان ». وتحت ذريعة الإرهاب الذي يمثله هؤلاء وأولئك احتل الأمريكيون أفغانستان. وبعدها دارت الدائرة على العراق، و ما يزال العالم يعيش إلى اليوم تداعيات ما جَرَّه الإرهاب والفكر الظلامي، اللذان رعتهما السعودية حقَّ رعايتهما، على جميع المستويات، وما تزال آثار الخراب الذي جرَّه كل ذلك على العالم الإسلامي بادية للعيان في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها.
هذا، دون أن ننسى السجل الحافل للنظام السعودي في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، وتنفيذ الإعدامات في الشوارع، وقمع المتظاهرين، وما إلى ذلك من مظاهر الاستبداد التي لا تمت بصلة إلى العصر.
وحين يكون سجل الدولة على هذا القدر من القذارة فمن الصعب تنقيتُه كما ينقى الثوب الأبيضُ من الدنس، ولا يمكن ل »الإصلاح المنشاري » الذي يقوده ولي عهد السعودية، محمد أبو منشار، أن يعيد لنظام السعودية عذريته السياسية ولا الحقوقية. بل إن الأداة وحدها هي التي تغيرت: لقد نُشر الفكر الظلامي بالسيف وتتم اليوم عملية تقليمه بالمنشار. وبين السيف والمنشار لا فرقَ، ربما، إلا على صعيد الألم الذي يحسه أولئك الذين تُجْتَزُّ رقابُهم بالمنشار بدل أن تُضرَبَ بحد السيف. أما النتيجة فهي واحدة: لا تهتز في السعودية رقبةٌ إلا قَطَفها سيفٌ أو منشار!
يبدو المشهد سوريالياً. فبدل أن يقود الإصلاح زعيمٌ ديني، ونخبة فكرية وثقافية وأدبية وفنية، كما حدث في أوروبا، يقوده حاكم متسلط يتوعد الرقاب بسوء العاقبة والمآب. وبدل أن ينطلق الإصلاح بتأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب انطلق بتأسيس ملهى ليلي. وكأن ولي عهد السعودية يقول بذلك بأن هذا « الإصلاح » ليس سوى تلهية ولهو وملهاة. وبدل أن يتم وضعُ دستور عصري للبلاد، وإقرار قوانين تساير المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، وتعترف للمرأة بالمواطَنَة الكاملة، تُختَزَل قضية المرأة السعودية بأكملها في رخصة سياقة وجواز سفر وشرطية « سافرة » تقف في ساحة الحَرَم.
وأمام هذه الصورة الهزلية، المليئة بسخرية التاريخ، تَعْمَدُ الآلة الإعلامية المُسخَّرة بالسلطة أو بالمال، أو بكليهما، من طرف ولي العهد السعودي، إلى « زُخرُف القول » فتصور الرجل وكأنه المُخَلِّصُ الذي جاء لينقذ بلاده، وكافة المسلمين، من براثن الظلام. والحال أن ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم من ويلات على صعيد الوعي الديني، وأزمة القيم، وانتشار الخرافة والجهل، وما سوى ذلك من مظاهر التخلف، كانت السعودية مصدرها وصانعها بشكل أو بآخر. وإلا كيف نفسر أن في السعودية شيوخا كانوا، قبل سنتين فقط، ينكرون كروية الأرض؟ وكيف نفسر أن في السعودية من يعقد ندوة في القرن الحادي والعشرين للإجابة عن سؤال « هل المرأة إنسان؟ ». بل كيف نفسر أن في السعودية إلى اليوم من يعتبر مشاهدة التلفاز حراماً؟
تفسير ذلك بسيط جدا. فمن السعودية خرجت « فتوى ابن باز في تحريم التلفاز ». والفتوى إياها لم تأت من فراغ وإنما انبثقت من ثقافة ظلامية، قروسطوية، راسخة في المجتمع والدولة السعوديين. وهما ما يزالان كذلك إلى اليوم. ولإحداث تغيير ثقافي عميق، وجذري، في السعودية دولةً ومجتمعاً لا يكفي تغييرُ السيف بالمنشار. بل إن الأمر يتطلب مسلسلا إصلاحيا شاملا بدايتُه إقرار دستور عصري، وبناء منظومة قانونية تتلاءم معه، وإقامة مؤسسات ديموقراطية، ووضع آليات للتغيير الثقافي الشامل الذي ليس الإصلاح الديني سوى جزء منه. وفقط حين يحدث هذا يمكن أن نعتبر أن هناك إصلاحا حقيقيا يجري في السعودية وأن ذلك يمكن أن ينعكس إيجابا على أوضاع العالم الإسلامي وعلى صورة الإسلام والمسلمين أمام العالم.
ما يحدث الآن ليس سوى استمرار لما حدث قبل تأسيس الدين الإسلامي وما بعده، مع اختلاف طفيف على مستوى وسائل الأمر والاجبار.
الأخ الفاضل السي محمد الحاجي
شكرا على حسن والاحترام التفاعل ونتمى أن تقدم مساهمة في الموضوع لإغناء النقاش الفكري بين المنبر وقرائه
وتقبلوا منا فائق التقدير
لا شأن لك ولنا بالسعودية فتلك أمة لها نا لها، حبذا لو تناولت مشاكل وإكراهات بلادك المغرب، وشكرا.
شكرا أيها الأخ الفاضل على التفاعل. فقط هو مجرد نقاش فكري وسياسي مرحبا بمساهماتك
من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله الأجر الثابت على الاجتهاد.
شكرا على مروركم الأخوي والجريد مفتوحة لمساهماتكم. مع فائق الشكر والتقدر بشخصكم الكريم