مؤشرات الانحراف الأعظم ..
د. سعيد أولعنزي تاشفين
تلبس دنيا ، نمودج المحظوظات من صنف » فنانات اللهجة الخليجية » قفطانا بملايين السنتيمات ، و الإكسسوارات المؤثتة للجسد تُقتنى من الحجاز و الأناضول و الجرمان و ب » البينكا » و » الزرقلات » . بينما يظل العروي صاحب المتون الفريدة مجهولا عند ملايين الجيّاع معدةََ و عقلاَ . دُنيا ، ذلك النمودج الحيّ من المستأسدين في زمن السّطحية التي جعلت الجسد مختبرا لكل عمليات السطو التقني من أجل الحصول على الأرداف المناسبة و الكواعب المثيرة لجحافل الجمهور ضحايا مأسسة الكبت و الجوع . دُنيا هذه ، كفنانة على المقاس ، لا تختلف قيد أنملة عن عبد العزيز صاحب » الفيزا و الباسبور » الذي يقطن فيلا فاخرة بمئات الملايين و ضيعة مجهّزة بكل شيء حتى بأنواع الخيول و الطيور ، غير بعيد في المدينة البيضاء من الأحياء شّبه الشعبية حيث يقطن كثير من المفكرين في شقق ضيقة تشترى و تجهّز ب » الطريطات » بعد مجهود يطول لسنوات عنيدة جدا .
و مسلسلاتنا اختصاص حصري للممثل عبد الله المستثمر الناجح في مجال المأكولات المناسبة لنَهم الجيّاع الذي يقدّم منتوجا تلفزيا ناجحا بميزة مشرف جدا في تسويق الغباء و بيع الضحك » لباسل » ، مستغلاّ شعبية مراكش مدينة البهجة لاقتناص الدعم من مدراء قنواتنا الذين لا يتغيّرون إلا بقرار من عزرائيل . دنيا و عبد العزيز و عبد الله و إيكو ، إلى جانب كل أشباه الفنانين من الممثّلين خريجي جامعات » باك صحبي » الذين يسخرون منّا و يجنون أرباحا طائلة من مدراء الجهل المؤسّس الناجحين في تلطيخ الذوق العام و في نشر الغباء و دعم ماكينة إنتاج الضّباع و رحم الله كسوس و أطال في عمر الفنان العظيم جدا عادل إمام، هم نماذج للإحراف الأعظم المستفيد من تبخيس الثقافة و العقل .
المثقف هنا بهذه الأرض السعيدة في غالب الأحياء تجده مكتئبا حزينا ، وملامحُه تفضح حجما كبيرا من الخراب و كأنها تهمس في أذنك و تقول: » هذا رجل يعكس فشل كل نهضاتنا الفكرية و يلخّص كل خيباتنا المتوالية » ، و في أحسن الظروف يعالج نفسه بالإدمان على » البيرة » و » الفودكا » في مستهل الشهر ، و كؤوس » الروج » بعد العشرين منه ، و ما عساه يفعل و راتب الأستاذ مثلا ، و قياسا عليه جل المهن ، لا يكفي لضمان هندام مناسب أو لاقتناء مستجدات الفكر من المكتبات التي أصابها » السيزي » بعلة الهجر المبين ، حيث إن معظم الأساتذة يلتزمون تقشفا ب » دارت » تحايلاَ منهم على » الزلط » و » الميزيرية » عبر مداومة الدجاج و العدس و البيصارة ، و كأس قهوة واحد في اليوم من أجل ضمان الممانعة ضد القدرة الشرائية التي جعلت أساتذتنا و مثقفينا عموما يتناسون كل القضايا القومية ، و ظلت طريطات السيارة و الشقة قضية أمن قومي قائم على حالة تأهب قصوى تتطلب » الدزقريم » قبل ظهور عورات السادة المثقفين بالتوجه إلى طلب السلف الذي لن يردّ أبدَا بسبب تعسف » دواير الزمان » . كيف لا و الكثير من مثقفينا من هذه المهنة و تلك أصبحوا سماسرة منهم من يُتاجر في بيع و شراء السيارات، و منهم من يهدر جهده للانخراط في وداديات » الهمزة » و اقتناص بقعة أرضية تباع في المخاض ، و ذلك بشراء إقطاعات بالمساهمات الشهرية ثم بيعها غالبا بالسوق السوداء حتى إن معظمهم لا يقتني جريدة و لا يقرأ مقالا و لا يحضر ندوة، و رغم ذلك نريد بناء ممانعة حضارية ضد الانحرافات إيمانا منا بالوعي المخصيّ لدى الطبقة المثقفة .
لقد نجحت رأسمالية الكازينو في تبخيس العقل و في تقديس ما بين الفخذين و ما بين الفكّين ، حتى صار المعي الغليظ القضية الأولى ، و يكفي أن كلّ مدننا الملطخة بالأنشطة غير المهيكلة والمزيّنة بالأرصفة الملطخة بنساء الليل و المعدّلة في تصاميم التهيئة الحضرية بسبب الريع الانتخابي أضحت قرى إسمنتية دون أي مضمون حضاري ، و حتى أصبحت نهضتنا و صحوتنا تقف عند حدود بناء المساجد لصنف أخر من مثقفي البخور الذين خرّبهم عبث الزمان فانهاروا في أعماقهم و ظلت فقط التسابيح و النوافل و صيام الاثنين و الخميس علاجا لهم من تداعيات الإفلاس العام ، و بالضفة الأخرى نجد المحلبات و المقاهي و الحانات و أسوار » المعكازين » تستقطب الطاقات المهدورة ، و لقد كان حجازي صاحب » الإنسان المهدور » على صواب في كل ما قال !! كيف لا و السياسات العمومية تجتهد فقط في تعبيد قنوات الصرف الصحي و منح الرخص المشبوهة للإقطاعيين الكبار الذين غالبا يتحكمون في الخريطة السياسية و ينتجون المجالس الترابية على مقاس » الهمزة » و الفساد ، و ما السياسة غالبا و من أسف إلا مهنة السماسرة المتاجرين في ذمة الوطن ، و هم غالبا براغماتيين من طينة » مرايقية » و » حسرافة » و الباحثين عن كل فرص التسلق الطبقي على أشلاء أحلام الضباع الذين حوّلتهم قنواتنا إلى كتل لحمية دون عقول.
هذا زمن المخنثين من » رجال » الشكل الفارغ و من النساء المسترجلات من نوع » الكفتة المتحركة » ؛ و هم جميعا من طراز » لمكلخين » الذين يغيّرون أسنانهم و يعدلون أنوفهم و يزرعون الشعر بصالونات الأناضول و ينفخون أردافهم و يسخرون منا صباح مساء في كل المنصّات دون خجل . كيف لا و نحن نعيش كل أشكال التعسّف الرمزي حتى صار العنف اللفظي مشروعا و صار » تخسار الهضرة » أسلوبَا لجني الأرباح بمنصات اليوتوب و الأسنستغرام ، و أصبحت الحكرة نمط تواصل مؤسّس على استعراض تضاريس الجسد من صنف » لميمات » اللائي يملأن اليوتوب ضدّا على الأخلاق العامة و الأداب !! فما عاد لنا أن نستمتع بنعيمة سميح و لا الدكالي أو بلخياط أو الحياني ، إذ كل الصفحات المشرقة من تاريخنا طالها النسيان لصالح تعبيد الطريق للتافهين والتفيهات والسطحيين والسطحيات، وكل هؤلاء مبرؤون مما يقولون .
لقد نجحت أساليب الدمار في إنتاج جيل جديد من الضجيج الذي يحمل إسم النضال و التدافع !! فلم يعد سمير أمين مرجعا و لا بور ريكور و لا ألان دونو أو المرنيسي ، كما لم تعد الخلفيات الإيديولوجية دعامة و لا الخطوط النظرية سقفا . و يكفي أن تملك إسما مستعارا لتنهش في لحوم العباد بكل حرية و أمام أنظار » صحاب الحال » ، فلا تستثني أمواتا و لا قوارير ، وتسبّ وتلعن وتقذف و تشنّ ألف حرب مثل الصعاليك في زمن البيزنطيبن على المختلفين بلا رحمة و دون تقدير مشترك ، ثم عبثا تؤكد أنك تريد التغيير و دولة الحق و القانون و تنتقد بشجاعة جليلة » لمخزن » و » لعياشة » و تقدم نفسك مناضلا صنديدا يملك مشروعية من ذهب !!
ماذا وقع حتى سكت الكبار غُبنا، وملأ الصغار غرورا كل المساحات ضجيجا، هذا زمن الانفلات من كل قوانين الاختلاف، فما عاد الوعي فكرا مؤصّلا ولا أطاريح تستحضر في التحليل و التأويل ، حتى إن وسائط التواصل الاجتماعي سوّت بين الشرفاء و الأندال ، فأصبح للمرضى منصّات باليوتوب والفايس والأنستغرام للتعبير عن السادية وعن المازوشية و الباناروا و الوسواس القهري و السكيزوفرينيا و الأنيميا القيمية ، و رحم الله سيغموند فرويد الذي بيّن معنى عقدة أوديب و إليكترا في السلوك ، و رحم الله فيلهلم رايش صاحب » إسمع أيها الرجل الصغير » ، بالقرب من جاك لاكان صاحب الأمراض المركبة ، و لقد كان مصطفى حجازي دقيقا في وصف عِلل الإنسان المقهور الذي يظن وهمََا أنه البطل المغوار في ساحة الحرب الوهمية التي يسقط فيها الضحايا تِباعا بضرباته ، و كل ذلك مجرد هوس باطولوجي يحوّل الهزائم إلى ملاحم و بطولات على أشلاء الضحايا فيما بينهم !! ، و هنا حريّ العودة إلى غوستاف لوبون لمزيد من التحرّي و الفهم .
لقد تحوّلت كل مستويات الفضاء العمومي إلى واجهات للصراع الدونكيشوطي بين » عساكر » الانتهازيين الذين يتناوشون من أجل المصلحة الخاصة باسم المصلحة العامة بدليل مناوشات السّعار و التربّص بالخصوم ، ثم عنوة تُستباح الأعراض و تُستهدف النساء في مضمار تصفية الحسابْ ، ويصبح كل شيء عُرضة للهجوم المباغت بحثا عن التفوّق في حرب داحس والغبراء، فهذا يحقد و يخطّط و يتربّص الدوائر ، و ذلك يزكّي و يدعّم و يصفّق للظفر بالنصر المبين ، وأولئك الأخرون السّلبيون يتفرّجون و يتلذّذون بالنشوة بحروب الإفك و الافتراء وتناول شرف المحصّنات و الشرفاء، وما النّصر المبين باطولوجيا غير تحطيم الضحية من طرف الضحايا في حرب توجّه ب » التلوكوموند » من لدن الساسة الكبار و الإقطاعيين الكبار و » الحرايفية » الكبار و المْعْلمين الكبار ، على شظايا أراذل التاريخ من ضحايا الذاكرة الممشوقة بالعار ، و كل أطراف الحرب نهاية هم ضحايا الوجود أبا عن جدّ ، و حرب الضحايا ضد الضحايا عنوان عريض لمكر التاريخ و لدهاء صنّاع الفرجة من صعاليك الريع، و كلّنا في الهوى سَوى ضحايا بالفطرة والاكتساب ، و هذا يكاد يعمّ كلّ مناطق المغرب من أسف عميق
هذا زمن اختلط فيه النابل بالحابل ، و صار الضجيج عُملة رائجة ، و جنون العظمة عنوانا . و رحم الله مالك بن نبي المسلم الذي أكّد ، على غرار نيتشه العدمي ؛ و هما معا يلتقيان و بينهما برزخ لا يبغيان ، على أن التاريخ يعيد نفسه مكرا أولا و سخرية ثانيا أمام أنظار ضحاياه من ذوي أخلاق العبيد .