وسائل الاتصال والتواصل.
ذة/ثريا الطهري
. هي ظاهرة قد تكون عادية لكنها أثارت انتباهي لكثرة انتشارها في الأفراح كما في المأتم، ربما لجهلي أو لاختلاف العقليات، وهذا ليس مقياسا حقيقيا لعقلية وأخلاق الشخص.
كثرت هواتفنا النقالة، وقلت مكالمتنا العائلية، وخفت ملامحنا من ماء الوجه، وبحسب احتياجاتنا النفسية بتنا نطفئ ونشغل واي فاي العاطفة عسى نجد إشارة من العاطفة المشحونة باللهفة والسؤال عن الأحوال من الهاتف.
اليوم حياة الإنسان هواتف نقالة ونت والعلاقة الإنسانية تذكرني بما ندرسه نحن أساتذة الاجتماعيات حول مراحل الدول المتعاقبة في التاريخ، كمرحلة التأسيس، ومرحلة التطور، ومرحلة الضعف والانهيار.
تغيرت المفاهيم والمبادئ، تغيرت الأنفس واعماها التطور، كثرت المساحيق، وأصبح الإنسان أسيرا لمواقع التواصل، حتى صار تعطلها يعطل حياته، صراحة لست مدمنة عليها، لكن أقرأ كثيرا للمتعة، للذة، واتطلع ما يكتب عبر منصات التواصل الاجتماعي رغم جهلي بالتكنولوجيا، وجدت نفسي مجبرة على تعلم بعض آليات استخدامها ومع ذلك ما زلت لا اتقنها وغالبا ما ألجأ إلى المحيطين بي للاستنجاد بهم، هي أداة ذو حدين، جعلتنا في متناول أحبتنا بشكل سريع، والحصول على المعلومة، لكن لا الاهتمامات كما كانت، ولا التواصل والمحبة واللمة التي كانت أيام زمان، اصبحنا مباحين للكل ولا وجود لأية خصوصية.
زمان كانت التجمعات بين الأحباب، نتقاسم السويعات، ضحكتنا حقيقية من القلب، وايامنا تملؤها البركة والبساطة، جيلنا جيل الإخلاص في العلاقات.
زمان كنا نعرف كل ساكني الحي، نتواصل بيننا واليوم لا تعرف حتى جارك بالعمارة. حينما أرجع إلى الماضي وأنا أعيش الحاضر بكل تفاصيله، أحس أن الناس تغيرت، والمحبة اختفت، والقلوب أصبحت قاسية، والوعود تنسى وهو ما أحس به رغم إدراكي للزمان والمكان، فالماضي هو تفسير الحاضر والمستقبل لكنه بصيغة أخرى، ماضينا هو التعايش مع أحبتنا، مشاركتهم افراحهم آلامهم هم وصفة حياتنا الصحية، لقائهم يبث الأنس، ويطرد الأحزان، ويريح النفوس، فما أجمل أن يجد الإنسان كتفا يتكأ عليه، وقلبا يسمعه وهو يشعر بالأمان والسلام.
الحاضر عزلة، والعزلة اختيار بسبب الهواتف التي حدت من التواصل مع الأهل، فمهما بدت الأمور جميلة، فإنك لا تشعر بروعتها إلا إذا شاركتها مع أحد. فجميعنا سجناء، ولكن بعضنا في سجون ذات نوافذ ينشرون المحبة والفرح، يتواصلون ويتبادلون المشاعر والإخاء، وبعضنا في سجون بدون نوافذ مع الهاتف والجلوس لساعات وراء الشاشة لدرجة الإدمان، وضعف التواصل والاكتفاء بحياتهم الافتراضية.
أكيد أن وسائل الاتصال لها ايجابيات كثيرة، تسهل التواصل بين الأشخاص الصوتي والمرئي، لكن نكاية فيها(وهذا رأيي الشخصي )لا أحبها، سلبتنا أولادنا، أكاد أجزم أنهم مستأجرون عندنا بالمجان وفي أضخم الفنادق، مؤسف أن تصل العلاقة إلى درجة إرسال رسالة نصية أو صوتية للشخص المعني باقتضاب وتعطيل اللغة السليمة بسبب الاختصارات التي تتم عبر الرسائل خاصة للمتمدرسين.
قد لا تتفقون معي وهو رأي يحترم، أحب التواصل والزيارات العائلية المتبادلة، أحب القراءة واقضي الساعات فيها بلذة وشغف وسعادة من يدرك قيمة الكتب والاستزادة من منابعها، أقرأ لأنها تترك في النفس أثرا عميقا لا تفعله أضخم المجاملات، فالقارئ كتابا، أكتب لأن الكتابة تاريخ، والتاريخ مستقبل، والكتابة هوية، هي شكل من أشكال التعبير عن الذات والمشاركة مع الآخر، أفعل ذلك في وقت سيطر على انسانيتنا اللامبالاة حتى تخطى جميع السلوكيات، فنسينا أننا أناس يحكمنا الحب وتجمعنا المودة.
نسينا أن انسانيتنا تضمن استمرار التعايش والترابط والتواصل، لكن فقدنا البوصلة وتغيرت السلوكيات اتجاه الآخر، لنزرع بذور انسانيتنا في اولادنا ونعلمهم قيمة الإنسان والتآزر والتراحم والتواصل، فنحن الكبار يؤلمنا بعدكم عنا، واهمالكم لنا ،وانصرافكم من جوارنا، وانشغالكم بهواتفكم في حضورنا، نحتاجكم كثيرا، نحتاج لمن يسمع حديثنا، ويأنس لكلامنا، نحتاج إلى بسمة في وجوهنا، نحن من اعتادوا على العلاقات وتعودوا الزيارات.
كل ما في الدنيا لا يساوي شيئا اسرقوا من الحياة حياة قبل أن يسرق العمر سنوات حياتكم، اسرقوا من أعماركم لحظة، رفيقا، لمة صادقة، امزجوا الحب والطيبة واهدوها باقات تواصل وسؤال لكل قريب وصديق، لمن ضاقت به الدنيا لمن ينتظر من يجيء ولا يأتي، ولا تنسوا أبدا من جعلكم تضيئون في عتمتكم، فالتواصل بلسم الجراح، ومفتاح العلاقات الإنسانية.
اليوم أصبحت الحياة حفلة تنكرية، والصادق الذي يحضرها بوجهه الحقيقي يخجل من نفسه.