سؤال الحداثة والعلمانية من منظور بعض المفكرين المغاربة
محمد السميري
في سؤال « لماذا تأخر المسلمون؟ وتقدم غيرهم؟ » لكاتبه رشيد رضا جرح نرجسي لا زال قائما منذ عصر النهضة ،حيث انقسمت الإجابة بين تيارين :تيار ليبرالي يمثله كل من فرح أنطوان ،وشبلي الشميل ،أديب اسحاق، وطه حسين، ولطفي السيد….وتيار سلفي يمثله كل من جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان ،ورشيد رضا… وقد حاول الفكر النهضوي منذ دخول نابليون مصر أواخر القرن 18نتيجة الصدمة الحضارية اجتراح أجوبة ضمن صراع وسجال فكري بين اتجاهات متباينة لا زالت مستمرة وممتدة حتى الآن، وكأن سؤال رشيد رضا لا زال رجع صداه يزداد ترداد الى يومنا هذا، بعد مضي ازيد من مئة عام ،تحت ضغط اتساع الهوة التاريخية بين واقع عربي يعيش تخلفا عل جميع الأصعدة ويأبى الاعتراف بذلك ،وغرب متقدم يفوقنا بألف سنة ضوئية. في هذا السياق كان الصراع والسجال بين اتجاهات فكرية تحمل قناعات متباينة ،حول قضايا لها علاقة بالواقع العربي الإسلامي، حيث اهتزت المنظومة المعرفية السابقة وبرزت على الساحة الفكرية مفاهيم تعبر عن حاجة تاريخية .والعلمانية من ابز المصطلحات التي شكلت مجالا للجدل والصراع في الحقل الفكري التداولي العربي . وبعيدا عن الدخول في جدل التعريفات التي تحبل بها الكتب والمراجع ،سنعقد الاتفاق مع الباحث السوري عادل ضاهر، والمتمثل في العلمانية موقف ابستيمولوجي يقوم على اعتبار العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة .لقد انبرى ثلت من المفكرين لرصد هذا المفهوم كإشكالية جديدة تختلف تمما عما كان الفكر التقليدي يتعامل معه. ويعد عابد الجابري من بين المفكرين الذي اشتغل ضمن مشروعه الحداثي في التفكير حول مفهوم العلمانية. قد يبدو للوهلة الأولى ان الجابري لا يبدي حماسا للعلمانية ضمن مشروعه النهضوي، معتبرا اياها شعارا ملتبسا و ترجمة غير موفقة للائكية بالفرنسية ولا تتناسب مع ثقافة الشعوب العربية حيث يقول : » هذه الفكرة غريبة تماماً عن الدين الإسلامي وأهله : فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله ، فهو لا يعترف بأي وسيط ، و ليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر . باختصار، فإنّ طرح شعار اللائكية، أي ما ترجم بـ »العلمانية »، في مجتمع يدين أهله بالإسلام هو طرح غير مبرر، غير مشروع ، ولا معنى له » (1) يقترح الجابري تعويض العلمنة بـ »الدمقرطة » و « العقلنة » ، مشيرا بهذا الصدد الى » إن الدمقرطة و العقلنة هما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي ، الديمقراطية تعني حفظ الحقوق : حقوق الأفراد وحقوق الجماعات ، و العقلانية تعني الصدور في الممارسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج » (2) ان في استبدال الجابري العلمانية بالديمقراطية والعقلانية قد يصدر ربما عن موقف تكتيكي يروم من خلاله تجنب الصدام بالتيارات الإسلامية ،حيث دعا في السياق المغربي الى مفهوم الكتلة التاريخية ،كتحالف بين التيار القومي اليساري والتيار الإسلامي لتحقيق التغيير المنشود .فمشروع الجابري هو مشروع حداثي لا يمكن الفصل فيه بين الديمقراطية والعقلانية وربيبتهما العلمانية. و يعزز هذا الموقف ما ذهب اليه المفكر المغربي كمال عبد اللطيف في احد حواراته، حيث أشار الى « إن ظاهرة تجنُّب استعمال مفهوم العلمانية من طرف بعض المفكرين والباحثين(يقصد هنا الجابري)، رغم أن إنتاجهم النظري يستوعب اقتناعهم بأهميتها، يعود لأسباب عديدة، من بينها أن البعض منهم يرى أن من الأفضل أن ندافع عن العقلانية والديمقراطية، فلا ندخل في مماحكات مع من يعتقدون أن مفهوم العلمانية يرادِف التغريب والإلحاد ».(3)
ننتقل من الجابري الى عبد الله العروي الذي يعتبر العلاقة بين الدين والدولة علاقة مرضية تؤثر سلبا على نجاعة الدولة في القيام بوظيفتها على احسن وجه ،وقد اعتبر العروي من المدافحين على الحداثة في جل مساره الفكري. فمقابل سؤال الهوية والاصالة يرى العروي ان لكل مجاله المختلف عن الاخر(أي مجال الحداثة مختلف عن مجال الاصالة) ويميز العروي بين المجالين على اعتبار ان مجال الحداثة هو السياسة العامة والمجتمع والمصلحة العامة، الذي يكون خارج البيت ،خارج الشعور.
يدعو العروي الى الانفصال عن التراث ،موضحا ذلك في احد حوارته بما يلي: »ما أعول علية هو ان ننفصل عن هذا الثرات بالقطيعة المنهجية معه، لنعود اليه بعد الانخراط في الحداثة ،وانا في اعتقادي اذا انفصلنا عنه ،أي انفصلنا عن الكيفية التقليدية التي نتلقى بها هذا التراث ،ثم ندخل في الحداثة مائة بالمئة ،ثم نعود الى هذا التراث سيكون بالنسبة لنا اغنى مما هو عليه اليوم،وهذه تجربتي الخاصة، فأنا اقراء بالفرنسية والانجليزية،لكن بقدر ما اتعمق في الادب الفرنسي ،بقدر ما اجد في الادب العربي قوة وعمقا لم اكن انتبه اليهما من قبل. « (4)يبدو واضحا من هذا النص ان دعوة العروي للانخراط في الحداثة لا يضر بالهوية كما يدعي حراس التراث بل يعيد امتلاكها في حلة جديدة،فالاصالة لها مجالها الخاص وهو البيت،والحداثة مجالها السياسة العامة والمجتمع،فالياباني مثلا، يعيش كما يقول العروي خارج البيت كأمريكي ،وداخل البيت كياباني.ان العروي يفصل بشكل ضمني من منظور حداثي ،بين مجال الدين ومجال السياسة كحقلين مختلفين .
يعتبر مفكر اخر وهو الفيلسوف المغربي المتضلع في المنطق طه عبد الرحمن من منطلقات دينية الفرضية القائلة ،باختصاص كل من الدين و السياسة بجانب من جوانب الحياة الإنسانية فرضية خاطئة ، بل الصواب أن الدين و السياسة وجهان لتسيير الشأن التعبدي و التدبيري على حد سواء حيث يقول: » علاقة الدين بالسياسة علاقة وجودية بين عالمين متقابلين، و أن هذه العلاقة تتخذ في الواحد منها عكس الاتجاه الذي تتخذه في الآخر ، فتكون في الدين عبارة عن تنزيل، بجعل العالم الغيبي مشاهدا في العالم المرئي، أو قل عبارة عن تشهيد، و تكون في السياسة عبارة عن تنزيه يجعل العالم المرئي متواريا في العالم الغيبي، أو قل عبارة عن تغييب » (5) ويوافق طه عبد الرحمن الجابري في عدم دقة ترجمة العلمانية، مقترحا تعويضها بكلمة « الدنيانية » معتبرا العلمانية أفكارها قريبة من أفكار الدهريين، الذين يعتقدون بدهر الدنيا و يكفرون بالآخرة (6) ، وهو ما جعله يرفض بشدة كل فصل بين الدين والسياسة.
ونخلص أخيرا الى موقف عبد السلام ياسين احد ممثلي التيار الإسلامي المحافظ، وابرز منظري جماعة « العدل والإحسان « بالمغرب ناعتا العلمانية « بالانفصام النكد » أي انفصال الدين عن الدولة ،معتبرا ذلك آلية إلحادية لمحاربة الدين أي دين حتى الإسلام (7) استنكر عبد اسلام ياسين على أعلام « فكر النهضة العربية » مثل « عبد الرحمان الكواكبي » و « محمد عبده » و « طه حسين » عدم تشبثهم بالدولة الإسلامية و تطبيق الشريعة (8) ، بل و تماهيهم مع الطرح العلماني ،الذي يعتبره إلحادا يحارب الدين، مثلما كان أيام الجاهلية ( بمعنى أن العلمانية من سمات الجاهلية أي ما قبل الإسلام و بالتالي فهي كفر).
نخلص مما سبق الى ان العلمانية صيرورة ،وان علمنة الدولة والمجتمع والثقافة ضرورة تاريخية . فنحن كما يقول المفكر المغربي كمال عبد اللطيف نعيش في زمن يتجه لرفع غلالة السحر عن العالم، سحر الأقدمين وسحر المحدثين، من أجل المساهمة في بناء عالم بدون أسرار.
هوامش:
1 – محمد عابد الجابري »الدين والدولة وتطبيق الشريعة » ص:110
2- – المرجع السابق، ص 113
3- مجلة مؤمنون بلا حدود
4- حوار أجرته قناة سكاي نيوز مع عبد الله العروي
5- طه عبد الرحمن ، « بؤس الدهرانية » ، ص 12
6- طه عبد الرحمن، « روح الدين : من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية » ص46
7- عبد السلام ياسين ، » الإسلام و القومية العلمانية »
8-عبد السلام ياسين ، نفس المرجع ، ص 114- 115