المدينة – السياسة – العقل ؛ إنزياحات في سيرورات العقل :

المدينة – السياسة – العقل ؛ إنزياحات في سيرورات العقل :
شارك

د سعيد ألعنزي تاشفين

   الشعبوية ميتافيزيقا السياسة ، والسياسة بالفساد تخريب لجدوة العقل وتحريف لترشيد تدبير شؤون المدينة تحت تعسف الهو السياسي ( الهو هنا بالمعنى المقصود لدى سيغموند فرويد ) ، وهي هدر لإرشاد المعنى نحو كرامة المواطن عبر تجويد شروط الوجود . ولأن المدينة تجمع الحكماء والرّعاع ، الفضلاء والغوغاء ؛ فإننا نجد فلاسفة الإغريق يؤكدون إن تدبير شؤون المدينة يجب لزوما وحصرا أن يظل من اختصاص الحكماء من أصحاب العقل بعيدا عن أي توافق مع إكليشيهات الدوكسا بما يخرب المشترك الإنساني ب  » البوليس  » – المدينة . وما الحكماء غير الفلاسفة أصحاب اللغوس الذين يُخضعون تدبير المدينة – التراب لقواعد العقل الراجح بفضل قيم الشفافية وحسن السلوك حتى إن أفلاطون شدّد على أن تدبير المدينة من اختصاص الفيلسوف مالك الحكمة ، وماذا يكون الحكيم لدى افلاطون سوى الفلسوف الذي ينتصر تحديدا للعقل ويعتبر المدينة فضاءً عاما لا يقوم تدبيره إلا بالعقلانية وفق شروط الثقافة والفن كأداة لصون الحقوق ولضمان حريات المشترك الجماعي وفق شروط  » السيتيزن شيب  » ، والتدبير هنا تأويل عقلاني رشيد يجعل الذوات محصنة بالكرامة الأدمية بمنأى عن كل تصنيف براني أخر غير  مواطنة الفرد التي تجعله مدينيا . ولأن السياسة عندنا ، على خلاف رؤية الفيلسوف صاحب فكرة الفيض وحلم المُثُل ، ذات صلة باللاعقل منذ بدايتها المشبوهة زمن التمرد على طقوس الأجنبي الذي مارس التعسف لإخضاع السوق الاستهلاكية الوطنية لمقولة نمط  الإنتاج الكولونيالي التبعي عبر تمدين المجال ، فإنها جاءت حبلى بالإنحرافات منذ نشأتها الأولى . ولأن المغاربة لا يملكون عقلا جمعيا حرا يليق بفهم علمي – فلسفي للسياسة ، بعلة التبعية الى الشرق وإلى الغرب دون اعتماد توصيفة التميز على قاعدة الإنتماء الى هذه التربة الخاصة ؛ فإنهم ، من أسف ، ضحايا للسياسة وللساسة وللتسييس من مدخل الجهل المسيس والوصاية المسيسة والتحجير المؤدلج . وأزعم إن السياسي الفاضل هو من يولد من رحم المدينة بآليات تحليل مدَنيةٍ ويفكر في الرفع من الإيقاع حتى يليق بتطلعات السياسة الفاضلة في سياق تجويد الإدراك الجمعي للفضاء العام لصالح الأفراد المواطنين ، أي للمواطنة الرمزية . وبمنطق الخلف ؛ السياسي عندنا داهية يستثمر في عذابات الرّعاع والعامة ويتواطؤ مع غالبية القوم لسرقة المدينة ولجعل مطالب السواد الأعظم من ساكنتها حصان طروادة يمتطيه ب  » ذكاء  » سياسوي لتحقيق مآرب الأهل والأحباب باسم السياسة كأصل تجاري قابل للإستثمار من أجل مصلحة شخصية ضيقة على حساب مصالح الناس المسترسلة . وهنا بدل أن تكون السياسة تجل للوعي المدني على أنقاض الفهم القبلي – العشائري – الطائفي للمشترك ، تتجلى لنا في « المدينة » ذهنية تقليدانية تشرعِن الإستبداد بأدوات التنقيب عن المصلحة الشخصية على أشلاء الحلم الجماعي بالكرامة كما يجب أن تحتضينها المدينة . إن السياسة مدخل الفلسفة لبناء الدولة الفاضلة وإن الفلسفة منطق السياسة لاعتناق العقلانية نحو دولة فاضلة لشعب فاضل ، وهذه الدولة لا يمكن تصورها إلا بالعقل المؤساستي الجمعي الذي يضبط الإيقاعات على منوال  » اللغوس  » السياسي بعيدا عن تأثيرات  » الميتوس  » القبلي والإثني والمالي – الأوليغارشي المعادي لمقياس المواطنة المنصفة والحقة . والميتوس هنا ثابت في بنيات جامدة عمقا ، رغم ما يبدو من ديناميات شكلانية . فهو يتغذى بالجهل المقدس كما ترعاه القبيلة المضمرة في عمق هذه « المدينة » والذي يعمق الشعبوية وسيلة لتتعمق ميتافيزيقا السياسة على أكثاف الدهماء ضمن انحرافات الفعل . والجهل المقدس كذلك يظهر على شكل أصوليات متنوعة تارة باسم الإنتصار للمجال برمزية نفسية تقليدية ، و تارة باسم تمييع الفهم حيال الكرامة عبر إساءة توظيف المقدس الديني لتأويل السياسة والتطبيع مع الظلم باسم الإبتلاء عبر توظيف سياسوي للسماء ، وتارة عبر أصوليات أخرى علمانية نقابية وحقوقية وجمعوية رغم بريق الحداثة وقد يكون العلماني نفسه أصولي جدا وارتكاسي باسم القبيلة أوالمجالية أوبنيات تقليدانية موازية . والجهل المؤسس بدوره ينهل من المؤسسات التي تقاوم انعتاق العقل من قيود اللاعقل الجماعي المربك للسياسة كوعي متحرر من بطش التعسف الميتافيزيقي كما يرعاه البطش السياسي الذي يستند إلى الديموقراطية شكلا لكن بعمق أتوقراطي بارز ، وتظل بذلك ، أي السياسة ، أسيرة طقوس الجهل المؤسس هذه المرة كما تمارسه السلطة السياسية / الإدارية كشكل من أشكال تحديث القبيلة ضمن معاداة الحداثة بأدوات الحداثة نفسها وفق رمزيات الأنتروبولوجيا السياسية كما تسري في مختلف التنظيمات البيروقراطية . ولأن الجهل المقدس صمام أمان الجهل المؤسس ؛ في تفاعل متواصل وبذكاء مضمر بينهما ؛ فالسياسة ، بدل أن تنتصر للمواطنة كماهية للكرامة ، نجدها تخرب جدوة الإنسان بتحديث التخلف من خلال ملاءمة التقليد مع الشرط البراني للحداثة . ولا أجد هوية حقيقية تليق بالمدينة ، في مضمار الشرعية والمشروعية فلسفيا ، إلا التراب القائم قيام اللغوس في خدمة العقل من مدخل عقلنة ميتافيزيقا السياسة لتحقيق الكرامة الأدمية التي وحدها قمينة بتحصين كل تداوليات العقل ضدا على تأثيرات اللاعقل ، لكون السياسة الوسيلة الفضلى لخدمة الإنسان بالمدينة . وكيف يتمظهر اللاعقل سوى من خلال كل الأساليب والتدابير والإجراءات والمخططات المحبوكة للنيل من شموخ العقل عبر بوابة الإستثمار الإيديولوجي للتخلف لمحاصرة آليات اشتغال العقل السياسي العملي ؛ حتى أضحت السياسة مجالا للحداثة المغشوشة المتهالكة عمقا ومن دون أدنى تأويل عقلاني للسلطة مادية ورمزية . وحري التأمل في كيف يتحقق استصغار العقل في كنف اللاعقل ، من مداخل المدرسة والإعلام والمسجد والشارع والأسرة ، حتى إن كل درجات تمثل الجمهور للفضاء العام تظل تقليدانية وفق خلفيات القبيلة ، رغم مظاهر التحديث ، لأن المغربي يفكر من داخل القبيلة مهما اشتد بريق المدينة فيه ، على أساس أن الترييف أكبر من جاذبية الفهم المديني للمشترك الرمزي ، مع الحرص على التحفظ من اعتماد عبارة  » المدينة  » كشكل حداثي لتدبير المجال العام بعيدا عن المحددات المقياسية ذات فحوى بيروقراطية صرفة ، مع العلم أن رمزية الفضاء العام هي مقياس اختبار تمدن الجمهور من عدمه . وأزعم إن هدر الكرامة الأدمية وحده كفيل بتخريب تميز العقل ، سيما عندما تتحول السياسة إلى ميتافيزيقا القبيلة مهما تمدد لمعان الخطاب الحزبي العاجز عن الإنفلات من رهانات الشعبوية القروسطية راهنا مع تحديد التقليد لنفسه . فالإنسان  » مقدس  » من وجهة نظر علم السياسة ، لأنه جدير بالكرامة بفضل امتلاكه ملكة العقل التي تستثنيه عن مجموع الكائنات الحية ولكونه الوحيد الذي يعيش في كنف علائق سوسيو – ثقافية مشكلة لروح المدينة كفضاء عقلاني مشترك . والأنكى ؛ عندما يتم التفكير بالعقل والتخطيط به من أجل اغتيال العقل نفسه ضمن ما أسميه ب  » عقل اللاعقل  » كمفارقة ؛ حتى إن كل مستويات السياسة تقدم الحجة على معاداة العقل ، لدرجة أن السياسة تنتعش في قوالب ذهنية وفي سياقات تفكير جماعي – عضوي معادي لتحرر العقل من سياجات النكوصيات . ويجوز ملاحظة تداعيات العقل أنثروبولوجيا في مختلف التشكيلات الثقافية الشعبية ، من حفلات زفاف وطقوس ختان ومراسيم عزاء وفولكرور ، وخاصة عبر تفكيك الخطاب السياسي أيام الحملات الإنتخابية حيث يتأكد غلبة القبيلة والمجال الخاص على أشلاء الحق في المواطنة بما تستحقه من شروط اقتصادية وثقافية ورمزية لكون الإنسان حيوان رامز كما أكد كسرير . وهنا أصبح « عقل » النخبة يبدع في مخططات تدمير العقل ، مع العلم أن العقلين معا ، رغم الفارق ، يستندان إلى اللاعقل حقيقة ، مع وجود فوارق من حيث كون  » عقل  » النخبة متمرس في تغليف اللاعقل ب  » ماكياج  » العقل تدليسا لستر عورة الجهل المركب المستشري في فكر نخبة  » حداثية  » شكلا وبمضمون نفساني جامد ومعاد للعقلانية . ولذلك نجد كل الدسائس التي تستهدف ما أسميه ب  » العقل السياسي البرغماتي العملي  » تولد من رحم  » عقل  » النخبة الخادمة في دهاليز السلطة السياسية لصالح نفي العقل وضحده ، ثم توطيد دعائم الذهنية المتخلفة على مستوى تمثل الفضاء العام وإدراك عقلاني لرمزيته . والذهنية المتخلفة قوامها الميزاج في تقييم السلوك والشعبوية في إطلاق الأحكام . والشعبوية هنا تتجلى جوهرا للتحليل الميتافيزيقي للسياسة وقطب الرحى في ميتافيزيقا العقل السياسي برمته . و يجدر بنا التساؤل عن كيفية مقاومة الشعبوية المتواطئة مع السياسة المرتبطة بالنخبة لصالح انبعاث العقل المتمرد على إكراهات اللاعقل المسيطر لدى رواد الفضاء العام المهدور . وأستحضر إن ميشل فوكو اشتغل عقودا من الزمن من أجل تفكيك آليات اشتغال السلطة ، مؤكدا إن النقد العقلاني للسلطة هو مدخل السياسة العالمة بعيدا عن شعبوية إخضاع الرأي العام لهوس الجهل المدنس ب  » ماكينة  » زراعة التخلف باسم السياسة نفسها أفقيا وعموديا . والسلطة المتخلفة لا تكون مؤسساتية تابعة للدولة فحسب ، بل نجدها تتجلى مجتمعيا على عدة مستويات ، وأحيانا بشطط أكبر من فهم الدولة للشطط المشروع ( البيروقراطية ) عبر ماكينة إنتاج العنف المشروع رمزيا ؛ وكأن المجتمع كله ، عن بكرة أبيه ، مستبد مع وقف التنفيد حيث أحيانا ينفجر هذا الإستبداد ضمن حلقات الأنا السياسية والشعبوية حين تنفجر ، والأمر هنا محسوم من منطلق أن المجتمع هو الذي يغذي الدولة برجالها ونسائها وهي التي تغذيه أيضا . ولقد كان فوكو دقيقا جدا في حديثه عن المصحات النفسية وعن المدارس وعن الجامعات وعن الجنون ؛ كأدوات للإخضاع العملي بسلطة الجهل المؤسس لكل فرص الإنفلات من التخلف . لذلك نجد صاحب  » أركيولوجيا المعرفة  » يؤكد إن مهمة المثقف تكمن أساسا في قدرته على خلخلة منطق اشتغال المؤسسات من حيث التأويل التقليدي للمشترك نحو رفع الوصاية  تحرير الهو السياسي من كل كل غرائز التخلف . بمعنى ؛ إن المثقف المتنور وحده القادر على نقد منهجية اشتغال المؤسسات في اتجاه الدفع قدما بعقلنة الإدراك في تمثلها واستيعابها . وكلما نجح المثقف في إثارة سؤال كيفية اشتغال المنهجيات المؤسساتية الطامحة إلى تمثل للعقل ، كلما ساهم في بناء المدينة منسق ترابي خاضع للعقل . ومن أجل تدمير شعلة الشعبوية المجتمعية والدولتية حري اعتماد النقد الجريء للجهل المركب الذي يغذي الجهل المؤسس الذي يطفي على المؤسسات طابعا سحريا على قاعدة اللاعقل المشرعَن بالميتوس المتعدد قبيلةً وعائلةً وعشيرةً وطائفةً ، وعبر مختلف أشكال الإصطفاف التقليدي المعادي لروح التاريخ كما يوجهها العقل الفلسفي بأدوات السياسة – العقل كما أصّل له أفلاطون أولا وأريسطو المعلم الأول . ولكل ذلك لا يمكن للعقل البثة أن ينتصر على هول اغتيال المثقف كفاعل عقلاني من دون خوض غمار حرب التحرير الكبرى وهي تحرير المدينة من بؤس الشعبوية . وما دام المثقف مصاب بالأنيميا النقدية أمام تسلط السلطة الفجة دولتية ومجتمعيةو التي احتكرتها السياسة بسلاح الجهل بنوعيه ، فإن الساسة نجحوا في تحويل عوام الشعب إلى ذهنية جمعية تتماهى كليا مع الشعبوية التي تحمي اللاعقل وبتواطؤ مشبوه بين سلطتي المال والثقافة المضادة ؛ فاستأسدت بذلك الذهنية التقليدانية رغم بريق التحديث على أساس الميزاج كما يختصره المخيال العام ، و انهار العقل الذي قوامه الفهم والتحليل والتفكيك ثم إعادة الترتيب . وبدل أن تصبح السياسة مدخلا للتنوير ، أضحت أداة للتجهيل ووسيلة للتدجين وأصلا تجاريا لشراء المثقف في سوق النخاسة الفكرية بأبخس الأثمان . وبدل أن يحتضن المثقف العقل ويعادي اللاعقل بأدوات التنوير ، ها هو المثقف يشرعن اللاعقل عبر الصمت المؤدى عنه حينا وعبر البدخ الفكري أحيانا باسم التخصص الأكاديمي وفق قوالب الجهل الجامعي السيكولاستيكي ، أو من خلال المواهب مع شروط السخرة الثقافية بتماهي بسيكولوجي بئيس مع سياجات السياسة على نقيض ما راح يدعو له فوكو من ضرورة رفض الوصاية بنقد حي ومتواصل يمارسه المثقف الحي والحر والمستقبل . ولذلك من ٱسف تواطأ المثقف والسياسي لتكريس الجهل المقدس والمؤسس على أنقاض العقل كما يرتضيه براكسيس اللغوي الفلسفي .

     وختاما ؛ نحن مجتمع اللاعقل الذي يتبجح بالحداثة التي لا تتجاوز سقف التحديث دون القدرة على معانقة ماهية العقل ، حتى إن كل تمظهرات الحداثة ليست غير توصيفات تدليسية لإخفاء سوءة الجهل المقدس والمشرعِن للجهل المؤسس بذكاء مضمر بما يعادي تحقيق التراكم الإيجابي نحو الطفرة النوعية نحو دولة ومجتمع ديموقراطيين شكلا ومضمونا .

     ** الصورة من جلسة عمل من تنظيم اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان درعة – تافيلالت حيث قدمنا مداخلة في موضوع . ✓✓ المدينة – السياسة – العقل ؛ إنزياحات في سيرورات العقل :

 

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *