حصيد المعارضة

حصيد المعارضة
شارك

د. خالد فتحي

لا يحتاج المشهد السياسي في المغرب إلى كاتب دراما ليكشف عبثيته؛ يكفي أن تتأمل في مآل مشروع ملتمس الرقابة الذي كانت المعارضة تنوي التقدم به، لتدرك أن بعض الأحزاب لم تعد تميز بين العمل السياسي الجاد والاستعراض المجاني على مسرح بلا جمهور.

لست أرمي من هذا المقال إلى الشماتة في حزب معين، ولا إلى التهكم على المعارضة وقد خاب مسعاها في تقديم ملتمس رقابة ضد الحكومة، فذلك مما لا يليق. إنما الغاية هي الوقوف عند هذه الواقعة لنرصد من خلالها جانبًا من عقم البنية الحزبية لدينا، تلك البنية التي عجزت عن إمدادنا بحياة سياسية سليمة تقوم على دينامية تتصارع فيها البرامج والأفكار والتصورات، لا على الأنانية والانتهازية والإسفاف.

بدأت فصول هذه « الكاميرا الخفية » السمجة حين اندلع نقاش عقيم بين من طالب بلجنة لتقصي الحقائق، ومن أراد لجنة تحقيق. تصاعد النقاش واحتدم، لكن عندما بدا أن ميزان القوى داخل البرلمان لن يسمح للمعارضة بفرض رؤيتها، قررت الأخيرة التصعيد، وشربت « حليب السباع »، فأعلنت نيتها إسقاط الحكومة بملتمس رقابة، « عقابًا » لها على ما ارتكبته في حق المغاربة من ارتفاع في الأسعار، وما شاب أداءها من اختلالات في قطاعات عدة، وخصوصًا في قضية دعم الأضاحي.

ورغم أن المعطيات البرلمانية كانت تشير بوضوح إلى أن المعارضة اختارت معركة خاسرة، فإنها مع ذلك مضت قُدمًا، ولبست رداء من يبغي الإصلاح، مرددةً أن هدفها السامي هو « بعث الحياة السياسية » وخلق « حوار وطني ». وهو ما يدل بالنسبة لنا على أن أقصى أمانيها كان أن تقوم بدور منبري لا أكثر. هذه العتبة بدورها سيتبين لاحقًا أنها تفوق بكثير إمكاناتها ومقدراتها. ولهذا لم يولِ معظم الرأي العام، في ظل هذه الحالة، اهتمامًا كبيرًا للملتمس؛ إذ كان شبه متأكد من أننا بصدد تمثيلية رديئة الإخراج، وأن الجبل سيتمخض عن فأر، ما دام المنطق يقضي بأن فاقد الشيء لا يعطيه ولا يُحفَّز.

الآن، بعد أن خذلها حزب الاتحاد الاشتراكي، وانقلب السحر على الساحر، وخسرت المعارضة من صورتها، وصارت كـ «براقش » التي جنت على نفسها، من حقنا أن نتساءل: هل كانت هذه المبادرة جدية منذ انطلاقتها؟ أم كانت منذ البداية مجرد حمل كاذب؟ ألا يبدو أنها لم تكن سوى معركة بيانية لا تمت بصلة إلى ما ينتظره المغرب من إصلاحات فعالة وحقيقية؟

من كان يترقب انقلابًا على حكومة متهمة بالاختلال والغلاء، اكتشف أن المعارضة أكثر ضعفًا وتهافتًا من أي معارضة في تاريخ المغرب الحديث. معارضة رخوة إلى حد الرثاء، حولت سيف الملتمس الصارم إلى خشبة، وبدل أن تُفجِّر الحكومة، لفت الحبل حول عنقها وانتحرت سياسيًا أمام الجميع.

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا

أبشر بطول سلامةٍ يا مربعُ.

كم منت نفسها بحصاد وفير فكان نصيبها حصيدا الحق أفدح الأضرار بصورتها.

للأسف، تراجع مستوى أحزابنا السياسية. لم تعد المعارضات كما كانت عندما قُدم أول ملتمس رقابة في الستينيات، أو الثاني في بداية التسعينيات. كانت آنذاك أحزابًا تقوم بكل وظائف الحزب العصري. أما اليوم، فلا يصطف زعيم في المعارضة إلا اضطرارًا، بل لم يعد حزب يرغب فيها أصلًا، فكيف له أن يتقنها؟

بهذا المعنى نفهم كيف تحوّل البرلمان إلى سيرك سياسي بلا مدرب، تصرخ فيه المعارضة أكثر مما تفكر. المتابعون العقلاء للمشهد السياسي المغربي كانوا يتوقعون هذا الانفجار؛ فحزب الاتحاد لم يكن ليمضي بجدية في مشروع الملتمس، إذ يتذكر جيدًا كيف انسحب الحزب الإسلامي سابقًا من مبادرة مماثلة كان قد قادها، وقد لا يرغب أن يُلدغ من الجحر ذاته مرتين. وبالمقابل، لا نظن أن غريمه هذا قد نسي له حادثة « البلوكاج » الشهيرة، ولذلك من المنطقي أن يظل متوجسًا منه، مترقبًا أن يرد له الدين عبر الانسحاب في اللحظة الحاسمة، أو أن يعيد إنتاج واقعة مشابهة.

أكاد أجزم أن هذين الحزبين، اللذين يتعاملان داخل صفوف المعارضة بارتياب وانعدام ثقة لا تخطئه العين، كانا على يقين تام بأن التنسيق بين مكونات المعارضة لن يُكتب له النجاح، وإنما سيتنازعان ويفشلان معًا. ومع ذلك، تواطآ ضمنيًا على التظاهر بالوحدة، ليحقق كل طرف مآربه من هذه المسرحية العبثية.

قد يكون الاتحاد الاشتراكي قد انخرط في التنسيق وهو يعلم مسبقًا أنه سينسحب، وربما رأى أن لا بأس إن استثمر في إجهاض المشروع لإثبات قربه من الأغلبية، وإن كان خطابه معارضًا. انسحاب محسوب؟ ربما. مشفوع بوعود؟ محتمل. لكن المؤكد أن كل ذلك يعكس ارتباكًا أكثر مما يعكس موقفًا سياسيًا ناضجًا.

أما الحزب الإسلامي، فأغلب الظن أنه لم يكن بريئًا من لعبة التموقع؛ ساير المشروع، واستدرج الاتحاد، وترك له الصدارة، منتظرًا لحظة الانسحاب، ليُوجّه بعدها رسالة إلى الشعب مفادها: لا خير في أحزاب الحكومة، ولا في معارضة تتناحر على الميكروفون أكثر مما تتفق على القضايا الجوهرية.

أما باقي مكونات المعارضة، فكانوا مجرد كومبارس في لعبة تدور بين غريمين لدودين. يقول المثل: « الرفيق قبل الطريق »، لكن معارضتنا « الذكية » جعلت الطريق قبل الرفيق، قبل أن تتوثق من أن السائرين معًا رفاق مخلصون لا خصوم يتصنعون التوافق.

ما حدث يكشف عن حجم التواطؤ غير المعلن في تسليع الآليات الدستورية، وتحويلها إلى أوراق انتخابية عابرة، لا أدوات حقيقية للمحاسبة كما أرادها المشرع الدستوري والشعب. في النهاية، تحولت المعركة من سجال سياسي إلى حرب بيانات وتصريحات، وسقط مشروع الملتمس بنيران « صديقة »، فكانت النتيجة أن المعارضة أسقطت نفسها بدل أن تسقط الحكومة.

كم يبدو مشهد المعارضة محرجًا أمام الرأي العام، الذي صدّعته بـ «زئيرها »، فإذا بها في النهاية ترضى من الغنيمة بالإياب، كما قال امرؤ القيس.

لا شك أن هناك اتفاقات على المبدأ، لكن الشيطان، كما يُقال، يسكن في التفاصيل: من يتكلم؟ من يتصدر؟ من يحصد الفضل ويجني ثمار المعركة الرمزية؟ هكذا انفجرت التناقضات وتبخر المشروع.

تحوّل ملتمس الرقابة، الأداة الدستورية التي يُفترض بها مساءلة الحكومة، إلى ورقة انتخابية يُتاجر بها، لا أكثر. والنتيجة؟ معارضة بلا قيادة، تغرق في الحسابات الصغيرة، وتعجز حتى عن إتقان فن التهافت على السلطة، فضلاً عن تأدية دورها في التوجيه والمساءلة واقتراح البدائل.

وللإنصاف، فقد كانت هذه المعارضة مؤهلة لكل شيء إلا النجاح في هذا المسعى، لأنها متنافرة، متنازعة، لا تجمعها وحدة الصف، ولا هي على قلب رجل واحد. وحتى إن اجتمعت فرقها البرلمانية، فإن جمع قادتها أمر دونه خرط القتاد، كما يقول الإسلاميون.

زد على ذلك أن الحزبين الغريمين، اللذين فُرض عليهما الانتماء إلى المعارضة على مضض، يدركان أن خوض معركة من هذا الحجم جنبًا إلى جنب له ما بعده؛ فهو يولّد التزامات، وقد يفرض عليهما تنسيقًا انتخابيًا في المستقبل، وهو أمر لا يرغبه أي منهما.

وعلى خلاف الأغلبية، التي تتوحد – ونحن هنا نحلل بحياد – حول برنامج حكومي، فإن معظم مكونات المعارضة يوحدها فقط أنها لم تجد لها موقعًا في حكومة كانت تطمح للانضمام إليها. وهذا الشرط لا يخلق تضامنًا ولا يؤهلها لخوض معارك كبرى مجتمعة.

نحن نعيش أزمة عميقة، عنوانها: بنية حزبية فاشلة، حوّلت البرلمان إلى مسرح بلا عرض. أحزاب تتبادل الاتهامات، وتُلقي كرة الفشل على مؤسسات أخرى، كما فعلت المعارضة، بدل أن تبدأ بمصارحة داخلية حول انهيار مصداقيتها أمام الناخبين وعزوفهم عنها.

الأجدر اليوم أن تقدّم الأحزاب ملتمسات رقابة ضد قياداتها، لا ضد الحكومة؛ فقد عبثت تلك القيادات بالمشهد السياسي، وأفرغت الفعل الحزبي من معناه،

 حتى صار مجرد تمثيل بلا مضمون، ومجرد أدوار محفوظة تُؤدى بلا إقناع أو تأثير. ولا غرابة في ذلك، فالمنظومة الحزبية التي تشرف عليها هذه القيادات تعاني من شيخوخة تنظيمية، وضبابية في الرؤية تجاه مشكلات المجتمع، وانفصال شبه تام عن نبضه. أحزاب تفتقد للقدرة على التجديد، تردد الخطاب نفسه منذ عقود، وتحصد الامتيازات دون أن تعيد بناء جسر الثقة بينها وبين المواطنين. إنها أحزاب لا تنزل إلى الشارع، لا تتواصل مع الناس، ولا تسمع صوتهم إلا من وراء ميكروفونات قاعات مغلقة أو عبر تدوينات خشبية ميتة.

إننا، في انتظار معارضة حقيقية، سنظل نرى مثل هذه المهازل تُعرض أمامنا، ويُوأد مثل ملتمس الرقابة في مهده، فيضيف فصلًا جديدًا إلى سجل العبث السياسي في المغرب.

لقد بلغنا زمنًا أغبرًا، تُجهض فيه الملتمسات قبل أن تولد، وتُذبح فيه المبادرات من الداخل، ولا نعرف حتى من يكون القاتل الحقيقي. وإذا كانت المعارضة تُجهض أدوات المحاسبة بيديها، فما الجدوى من وجودها؟ بل، ما معنى أن يُبقي الرأي العام ثقته في بنية حزبية عاجزة عن مجرد الاتفاق على كلمة واحدة، ناهيك عن إحداث تغيير حقيقي؟

ربما آن الأوان لطرح السؤال الذي يتجنبه الجميع:

هل نحتاج إلى معارضة جديدة؟

أم نحتاج إلى ديمقراطية من نوع آخر؟

آليات الديمقراطية موجودة، وتقنياتها الإجرائية مفعّلة، لكن روحها غائبة.

ويبقى السؤال الجوهري، بعد هذه المهزلة:

هل نحن أمام معارضة تؤمن فعلًا بالإصلاح؟

أم أمام بنية سياسية مرتجلة، تقتات على أنقاض الشعارات، وتنهار أمام أول اختبار حقيقي؟

وأخيرًا، لعل معارضتنا تجد بعض العزاء في هذا المقال. ألم تقل إنها تريد أن تثير النقاش؟ هذه السطور جزء من ذلك النقاش، وذلك رغم أنها، للأسف، أجهضت بنفسها ملتمسها الذي كان منذ البداية غير ممكن، وكان مجرد مزايدة لا أكثر.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *