غزة أسقطت العالم… وسقطت معها كل الأقنعة..

عزيز الدروش محلل سياسي
غزة لا تُقاوم فقط القصف، ولا تُصارع فقط الحصار، ولا تُدافع فقط عن شعبٍ يُباد أمام عدسات العالم وعلى المباشر … بل غزة أسقطت العالم.
نعم، غزة أسقطت العالم بكل ما فيه من مؤسسات، ومنظمات، ونفاق دولي. أسقطت الشرعية الدولية التي لم تكن يومًا شرعية لغير الأقوياء. أسقطت مجلس الأمن الذي أصبح مجلس صمتٍ وخنوعٍ وخضوع. أسقطت الأمم المتحدة التي تحصي جثث الأطفال وتعدّ المجازر، ثم تكتفي ببيانات جوفاء لا تُغني ولا تُنقذ.
غزة أسقطت أمريكا، قائدة الإجرام العالمي. فواشنطن لم تكتفِ بالدعم السياسي والدبلوماسي لإسرائيل، بل موّلت القتل، وغطّت المجازر، وأرسلت شحنات السلاح لزيادة حجم المذبحة. أمريكا لم تكن شريكًا في الحرب فقط، بل كانت المخرج والمُمثل والمُنتج. رفعت الفيتو في وجه أي قرار دولي يحاول وقف النزيف الفلسطيني، ثم ادّعت الدفاع عن القيم الديمقراطية. أي نفاق هذا؟ وأي قيم؟
غزة أسقطت الصين وروسيا معًا. قوتان عظميتان تتفرجان على الإبادة الجماعية بصمت استراتيجي مشبوه. صمتٌ بلا موقف، ولا حتى إدانة حقيقية بحجم الجريمة. وكأنهما قررتا ترك أمريكا تعبث وحدها، لأن القضية لا تُهدد مصالحهما المباشرة. أين التحالفات الدولية؟ أين موازين القوى؟ أم أن دماء الأطفال لا تستحق كسر التوازنات الدبلوماسية؟
غزة أسقطت كل القيم. أين الحق في الحياة؟ أين المساواة؟ أين الضمير العالمي؟ يُذبح الأطفال بالجملة، وتُباد العائلات، وتُقصف المستشفيات والمدارس على المباشر، والعالم ما يسمى بالحرّ يواصل خطبه عن أمن إسرائيل. أسقطت غزة الكذبة الكبرى التي اسمها حقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق لم تُخلق للعرب، ولا للمسلمين، ولا للفلسطينيين!
غزة أسقطت الأخلاق. فحين تتحول الجريمة إلى سياسة، والمجزرة إلى رد فعل، والإبادة إلى عملية عسكرية مشروعة، يكون العالم قد أعلن إفلاسه الأخلاقي. سقطت الأخلاق حين تساوى القاتل والضحية في أعين الإعلام الغربي المتواطئ المتكالب، وانقلبت الحقائق تحت سطوة الرواية الصهيونية.
غزة أسقطت المبادئ. لا عدالة، لا حرية، لا كرامة، لا إنصاف. كل المبادئ الجميلة التي يتغنى بها الغرب سقطت في غزة. فهنا لا يوجد حق في تقرير المصير، ولا كرامة وطنية، ولا حماية للمدنيين، ولا قواعد للاشتباك. يوجد فقط صمت عالمي على محرقة علنية، ومقابر جماعية تُفتح كل يوم وعلى المباشر.
غزة أسقطت مؤسسات المجتمع الدولي. المحكمة الجنائية الدولية صامتة، أو مشلولة، أو خائفة. مجلس حقوق الإنسان مجرّد منصة خطب فارغة ومبتزة. أما الإعلام الغربي، فقد اختار الاصطفاف إلى جانب المجرم، واكتفى بترديد رواية المحتل.
غزة أسقطت الشعارات. تلك الشعارات الرنانة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الدولية تحوّلت إلى رماد تحت أنقاض البيوت وعلى المباشر. شعار الحق في الحياة مات في حضن طفلٍ فقد أمه وأباه وإخوته في لحظة.
لكن، ومع كل هذا السقوط، تبقى الحقيقة الوحيدة:
رغم الحصار والدمار والإبادة… غزة لم تسقط.
سقط العالم كله، وسقطت معه الإنسانية، وسقطت معه الأمم، لكن غزة بقيت واقفة، تقاوم، تصرخ، وتُعرّي الجميع.
فمن سيستعيد إنسانيته قبل أن يُصبح جزءًا من هذا السقوط الجماعي؟
من المستحيل بناء عالم قوي وديمقراطي وعادل بمؤسسات ينخرها الفساد والاستبداد والظلم والحكرة وأشياء أخرى*