التهامي السالمي: الحضور المتواصل عبر ذاكرة عيطة

التهامي السالمي: الحضور المتواصل عبر ذاكرة عيطة
شارك

 

المنظار: مرة أخرى مع الباحث التهامي حبشي في قراءته للموروث الشعبي واستنطاق ذاكرته في روابطها بالتصوف، أنها العيطة الثقافة الشعبية المتجذرة في الوجدان المغربي، لمنبسط تامسنا حيث السواكن والبراولن ترحل بنا إلى حضرة الأولياء وكراماتهم مع الاستمتاع بكل هذا الزخم باستخدام نقرات الطارة والبندير على نغمات ألى الوتار والصوت الشجي للتهامي السالمي. ونظرا لطول مادة البحث ارتأينا تقسيمها إلى ثلاث حلقات.

 

مهداة إلى الشريف العزيز سي أحمد بوكطاية

وإلى كل الشرفاء من أبناء السوالم، والخيايطة، والساحل أولاد حريز الغربية

الموشومين في القلب و الذاكرة

من منا نحن وليدات أحواز الدار البيضاء والشاوية، من لا يذكره أو يتذكره؟ من منا لا يدندن عند الفرح ويترنم عند الشجن، أو ساعة السفر أو الظعن، بكلمات وأنغام ساكن مولاي عبد الله بني أمغار…ذاك الولي الزاهد، العابد، المجاهد، الذي من رأى ضريحه من الزوار، كأنه رأى الجنة بالنهار؟ يا لجمال البلاغة العفوية والاستعارة الصوفية، في لغة الغناء الديني الشعبي أو الإنشاد الصوفي، المتوسل إلى نقرات الطارة أو البندير التقليدي ونغمات آلة الوتار الرباعي…إنه المرحوم الفنان الشعبي التهامي السالمي، وليد منتصف الثلاثينيات، والمتوفى في منتصف التسعينيات من القرن الذي فات، بدوار لخلايف السوالم الطريفية، بمنطقة أولاد حريز الغربية من تراب الشاوية المطلة على الواجهة البحرية الأطلسية.

من منا نحن جيل السبعينيات من القرن الماضي لم يشنف أسماعه ويهز مجامع فؤاده.. بصوته الرخيم ووتره الرباعي المستقيم؟ من منا نحن المولعون بفن العيطة لم يردد مقاطع عيوطه وسواكنه وبراوليه الخالدة؟. وبالخصوص ساكن مولاي عبد الله الذي ينشد فيه بصوته العذب: « وراه ركبنا فرحانين / مشينا مجموعين/ الزيارة للوالي الحنين/ وراه السوالم جايين زايرين.(الرجاء، اضغط على الرابط الآتي للاستماع إلى هذا الساكن أو البروال الصوفي:youtube.com/watch ?v=7edNF40neeY

ساكن شجي لطالما ردده الفنان المرحوم التهامي السالمي، رفقة زميله محمد السالمي، في ربوع الشاوية الغربية…قبل أن تتلقفه و تتناقله ألسن باقي شيوخ العيطة المرساوية أو الحصباوية والشيخات الطباعات، من أمثال الإخوة أولاد بن عكيدة والمرحومة فاطنة بنت الحسين…التي كان فناننا الأصيل ينافسها في الأداء والفرجة في سهرات وأعراس وحفلات أبناء الشاوية الساحلية، من أحواش الدار البيضاء بأولاد حدو ومديونة، وأولاد جرار، وأولاد حريز الغربية، والسوالم الطريفية، والبئر الجديد، وإثنين هشتوكة، حتى أحواش آسفي وعبدة السمراء، مرورا بعبدة البيضاء/ دكالة، الجديدة/ مازاكان، أزمور، وسيدي إسماعيل..، وصولا إلى عبدة السمراء جمعة اسحيم، لوي جانطي أو اليوسفية والشماعية، بلاد الحصبة الولافة وآسفي  » عبدة وآسفي الحنين/ كاع مركد زين ». في سديم هذه

الفضاءات الشاسعة والآفاق المفتوحة على الذاكرة والنسيان، ظلت عيوط المرحوم التهامي السالمي تضمخ المكان وتتغنى بالسلالات العريقة، والأماكن المبجلة والكرامات الصوفية الشعبية، والأضرحة والمزارات المقدسة، بالسواكن والعيوط المحبوكة، كما بالقصايد والقفشات الهزلية المضحكة…. من منا لا يتذكر سواكن مولاي عبد الله، ومولاي إبراهيم، والسوالم شرفا؟ من منا لا يتذكر قصيدة (الحواميض) التي تتغنى بخسران الفلاح السالمي لحقل طماطم عصرية بسبب عاصفة (عجاج) خريف سنة 1977؟؟؟

لسنوات طوال، منذ أواخر الستينيات وخلال السبعينيات، و حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي…ظل التهامي السالمي هائما في الأسواق والمواسم والحفلات والأعراس، مثل شاعر جوال ينحدر من شعراء التروبادور، يحمل وتره ويمشي الهوينى صحبة رفيقه الفنان محمد السالمي بآلة الطارة أو البندير…ظل هذا الثنائي المنسجم يجوب ربوع الشاوية الغربية من البيضاء وأولاد حدو، ووادي مرزك، ثم أولاد جرار، مرورا بدواوير البوهالة والخيايطة، وحانة 23 ، ثم الكروشيين، والشرفاء العلويين وحانة 36 والبوشتيين… هناك بتربة السوالم الشرفاء، حيث يرقد الولي الصالح الشريف مولاي التهامي، سليل الزاوية الوزانية التي كان لرجالها جاه وسلطان على أراضي وأمراس الشاوية ، منذ عهد السلطان المولى سليمان..مرورا بفترة المولى عبد الرحمان بن هشام، وصولا إلى زمن الحفيظيين والعزيزيين…، فتيمنا ببركة هذا الولي الشريف الوزاني المحلي « مولاي التهامي »، حمل الطفل الذي سقط رأسه بتراب السوالم إسم: التهامي (السالمي)، قبل أن يطر شاربه وينضج عوده، ليحمل وتره ( وتار رباعي سلك من حرير) ويسوي (يدوزن) أوتاره مع حبال ونبرات صوته الرخيم والشجي…طالقا العنان لأنغام العيطة والساكن في حقول الرعاة والمزراعين، وفي حلقات المواسم ( موسم مولاي عبد الله أمغار بالجديدة، موسم مولاي التهامي بالسوالم، موسم سيدي لحسن الشريف قرب أزمور…)، كما في حلقات الأسواق القروية. فلسنوات طوال، ظل التهامي السالمي ينتقل، صبحا وعشية، ليرتجل براويل وعيوطا شجية في « حلاقي » العديد من الأسواق الأسبوعية بمناطق الشاوية و دكالة وعبدة، من قبيل: ( حد السوالم ، أو حد أولاد فرج، اثنين اشتوكة، أو إثنين غربية، ثلاثاء بوسكورة، أو ثلاء بوكدرة، أربعاء أولاد جرار، خميس البئر الجديد أو خميس مديونة، جمعة اسحيم ، أو جمعة فوكو أو أولاد عبو، سبت كزولة ، أو سبت العسيلات…)

من منا يذكره أو يتذكره اليوم، في زمن تكنولوجيا التسجيلات السمعية البصرية المتطورة، في زمن هيمنة الصورة وموتها واستعلاء الصوت واضمحلاله؟ من منا يعيد ترميم أطياف صورته الشخصية، الطبيعية أو الفوتوغرافية، العادية والهاربة من مخالب النسيان؟ بقامته المربوعة القد، وبلون بشرته الأصهب، وبشاربه الأشقر، بطلعته الوسيمة، وبسمته العريضة، ببحة صوته الشجي والرخيم…ظل التهامي السالمي يجوب ربوع الشاوية

ودكالة وعبدة..ظل يعزف، يغني، يمرح ويمزح، يرفه ويسلي جمهورا عريضا من من أبناء الفلاحين البسطاء الطيبين، والرعاة والمزارعين والحبحابة والحصادين، والعمال المياومين في ضيعات الرأسماليين، كما في إسطبلات وخيمات الفلاحين الكرماء « الناشطين » في مواسم الصابة والخير والبركات والحقول الخصبة والبيادر الفياضة، كما في زمن الجفاف والكساد والخيبات والخسارات ( قصيدة الحوامض)؟ .

فوق مروج وروابي الشاوية الساحلية، بين أشجار الضرو والكاليبتوس، وسيقان القصب والسدر والبسباس، بين شقائق النعمان وأزهار الخزامى والجمرة..، وبين مجاري مياه حقول وضيعات زراعة الكروم اولخضراوات والبقوليات، من فصيلة التين واليقطين، والطماطم والفلفل، والبادنجال والبطاطس،… بمناطق السوالم والساحل والولجة… ظل المرحوم التهامي السالمي يتنقل، ويرتجل، ناقرا على أوتاره ومرددا لعيوطه وبراويله على طريقة « البومقلاع » أو « الحب الزعري » ، أي بارتجال تلك الشذرات الغنائية القصيرة، المكثفة المبنى والعميقة المعنى، العفوية الفطرية واللحظية المنسوجة من وحي اللحظة، وعمق الصورة أو اللقطة الحية، من قبيل: « تعجني النظرة في مول الطاقية الخضرا/ إيلا ضرب إيدو لجيبو وجبد لي شي عشرة ». وهو فن يمزج بين الارتجال والإنشاد، بين المديح الخفيف والاستجداء الظريف الذي لا يفسد للود قضية. إنه التوسل ــ لا التسول ــ بالفن في مواقف فكاهية وغنائية تشاركية، ترفه على المتلقي وعلى الملقي معا، وهذا ما جعل من غناء أو شعر و أداء التهامي السالمي ، غناء بدويا عفويا يخرج على الفطرة والسليقة، فطرة أهل أولاد زيان والسوالم الطريفية سليلي عائلات الرقيبات من الساقية الحمراء…وشرفاء الخيايطة وسيدي رحال سليلي عرب بني سفيان وبني معقل، أو ما اختلط من برابرة مصمودة وصنهاجة وعرب بني جابر.

يتبع

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *