التهامي السالمي: الحضور المتواصل عبر ذاكرة عيطة (الجزء الثاني)
المنظار: مرة أخرى مع الباحث التهامي حبشي في قراءته للموروث الشعبي واستنطاق ذاكرته في روابطها بالتصوف، أنها العيطة الثقافة الشعبية المتجذرة في الوجدان المغربي، لمنبسط تامسنا حيث السواكن والبراولن ترحل بنا إلى حضرة الأولياء وكراماتهم مع الاستمتاع بكل هذا الزخم باستخدام نقرات الطارة والبندير على نغمات ألى الوتار والصوت الشجي للتهامي السالمي. ونظرا لطول مادة البحث ارتأينا تقسيمها إلى ثلاث حلقات.
مهداة إلى الشريف العزيز سي أحمد بوكطاية…
وإلى كل الشرفاء من أبناء السوالم، والخيايطة، والساحل أولاد حريز الغربية…
الموشومين في القلب و الذاكرة…
لا زلت أذكر وأنا صبي صغير ما طر شاربي بعد، ذات صبيحة ما من صباحات صيف ساحلي بضباب كثيف من سنة 1977 أخذني والدي الكهل وراء ظهره على متن دراجته النارية الحمراء من نوع موبيليت..وتوجه بي إلى موسم مولاي التهامي، سليل الزاوية الوزانية، دفين شرفاء السوالم/الخلايف…هنالك كان يسبقني شوق المكان، وشغف الفضول، لمعرفة فضاء الموسم… وصلنا المكان وبدأنا نطوف بين خيام منصوبة وسط لغط وصخب وغبار، وروائح حناء وبخور، وماء ورد وبارود وروث سربات خيول أولاد حدو، وأولاد حريز، والسوالم، والخيايطة، وأولاد جرار، والمزامزة بني مجريش…كنا نطوف بين الخيام وبين « الحلاقي » حلقات من فنانين شعبيين وحكواتيين، ومن أصحاب لعب السويرتي ومروضي الثعابين، ولعبة الدراجة النارية الخطيرة أو كما كتب على بناية خشبية شاهقة ومستدرة: « حائط الموت علي بن الحسين »…وأصوات أشرطة الكاسيت لمجموعة أولاد بن عكيدة والشيخة الطباعة المرحومة الحاجة فاطنة بنت
الحسين… وبينما نحن نستمتع بكل عجيب وغريب يعج به المكان، إذ استوقفنا رجل كهل في سن الخمسين، رجل مربوع القد، بشارب أشقر ولون أصهب، يحمل بين يديه وترا رباعي الأوتار و يضع فوق رأسه طاقية خضراء بشاشية مميزة (طاقية الفروج ومن لا يعرفها؟)، استوقفنا الرجل ببسمته العريضة، وقال لأبي ــ الذي كان هو الآخر، بمحض الصدفة، يضع فوق هامته طاقية من نفس النوع واللون ــ: « تعجبني النظرة/ في مول الطاقية الخضرا/ إيلا ضرب يدو لجيبو/ وجبد لخوه شي عشرة ». ضحك أبي وبسط يده اليمنى في جيبه وأخرجها « عشرة د ريال » قطعة نقدية « صفراء تسر الناظرين »، ووضعها في كف الرجل الفنان..الذي ابتسم وتنحى من أمامنا قليلا، فاسحا الطريق للمرور….أمسكت بيد أبي وتطلعت إلى وجهه متسائلا: من يكون هذا الرجل؟ قال لي باسما: هذا هو التهامي السالمي، يغني ويضرب الوتار…فقلت: ياه إسمه مثل إسمي…فرد أبي: ومثل إسم هذا الولي الصالح مولاي التهامي، الذي سماك جدك تيمنا به..عام ولادتك في ربيع سنة 1970. تقول أمي في هذه النازلة: هذاك العام كان جيد و مزيان…كان جدك.. خالي عبد الله بن عمرو الحبشي الحريزي يحرث أرضه قرب البئر الذي حفره بيده، فقصده أخوك عبد الرحيم يحمل ديكا فحلا…ــ وكانت عادة أهل الدوار من الفلاحين البسطاء أن يذبح ديك في حفل تسمية المولود ــ فيمم وجهه رحمه الله تجاه القبلة قائلا: بسم الله.. الله أكبر ومرر بالمدية على عنق ذاك الفروج الجيد الأحمر ببنارتو..سال دم أحمر فوار..وبعد رقصة الديك المذبوح نادى أخاك: وا عبد الرحمن..خذ هاذ البركة.. وقل ليهم يسميوه التهامي…شايلاه آمولاي التهامي…رحمة الله عليك « آ جدي الحنين »..كم كنت عابدا زاهدا، كريما وسخيا، تكرم الضيوف مما وجد من الطعام » كرام الضيفان باللي كان ». كما تقول أمي، حفظا للذاكرة العائلية من مخالب النسيان…يا إلهي هل هو القدر أم الصدفة أن نلتقي أنا وأبي والمرحوم التهامي السالمي بموسم مولاي التهامي في ذاك الزمان الجميل، كي أشرع نوافذ الحكي هذه على خطواتي أو فتوحاتي الأولى في مقامات عشق أهل الصوفية والزاوية، والعيطة و »الساكن »، والخيل والليل والبادية ؟
مرة أخرى، في أواخر السبيعنيات من القرن الفائت، تشاء الظروف والأقدار، أن ألتقي المرحوم الفنان التهامي السالمي، هائما لوحده برحاب سوق « سبيت لعسيلات » بالساحل أولاد حريز…رأيته كعادته يحمل وتره باسما ومترنما، قصد رجلا يهم بشراء بطيخة صفراء تسر الناظرين…فخاطبه قائلا على نغم الوتر: تعالى أنتايا/ ما تشري مهايا/ حتى تدور معايا…ضحك السامعون…فناوله الرجل بأريحية بعض البقشيش وانصرف…بينما نظرات فضول طفولتي تتبعه، وهو يندس بين زحام المتسوقين، وفي الأذن رنين وتره ونبرات صوته الرخيم…،
رحمة الله عليك أيها الرجل الفنان العظيم الذي غنى فأتحف…وأطرب فأعجب…ومذ ذاك الحين وشوقي يزداد لسماع حديث الذكر والتسبيح، والتهليل والآذان، بصوت المرحوم الشيخ بوعزة، جدي من أم أبي، ذاك الرجل الحريزي الفقري، الضامر الجسد، الأبيض اللحية ،الصارم الهمة، البشوش النظرة، اللطيف الحديث، الذي كان يأتي من المدينة (الدار البيضاء) مرة في السنة، ليزور أبي ويقيم عندنا بالبادية يومين أو ثلاثة…يزودنا ببعض الآيات القرآنية….والأحاديث النبوية، وبكثير من الأذكار والتسابيح في زمن عزت فيه وسائل الإعلام السمعبصرية ، إلا من راديو أو مذياع مواج كبير كان قد اتخذ له أبي مكانا عليا بزاوية بيت من خشب (براكة) وغطاه بإزار أبيض وحذرنا من الوصول إليه، بل حتى من الاقتراب منه…
في سنة 1978 تطور شيئا ما « المشهد الإعلامي العائلي » عندما استودع أبي، من أحد أصدقائه من عمال شركة سوجيطا بضيعة كوش بالساحل، آلة فونوغراف (الحاكي) ومعها أشرطة غنائية من صنف 45 لفة، ومنها أشرطة للثنائي العوني والبهلول من منطقة البهالة بأمزاب، وأخرى للفنان عبد الكريم الفيلالي من آسفي..، وبالطبع أشرطة أخرى للتهامي السالمي…الذي لا زلت أذكر عيوطه الرخيمة بوتره الرنان وصوته الرخيم، وهو يغني براويل من صابة وماء وقرنفل وحناء: ساكن مولاي عبد الله بني أمغار…عندو تسع شراجم: ثلاثة صادين قبلة، ثلاثة للجرف الأصفر، ثلاثة صادين للبحر..واللي هو مولوع راه الجامع تمة.
وإذا ما قمنا بقراءة ديسكوغرافية في التحف أو القطع الموسيقية والغنائية المسجلة باسم الفنان التهامي السالمي، من خلال دراسة وفهرسة التسجيلات الصوتية المنشورة لهذا الفنان الشعبي خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.( تسجيلات شركات كازافون، بيضافون، بيضاويفون، صوت الجمال…)، والتي نجد بعضا منها اليوم موثقا بالصوت والصورة الفوتوغرافية بموقع سطات بلاديSettatbladi.org)، فإننا نجد بأن الريبيرتوار الغنائي للثنائي التهامي السالمي ومحمد السالمي يبلغ عشرات الأغاني ضمن أشرطة من فئة 45 لفة وأشرطة الكاسيت ستيريو ( صوت الجمال، صوت الحياة..). وهي أشرطة متنوعة الغناء، ما بين السواكن (جمع ساكن، وهو البروال الصوفي أو الديني) التي تمجد وتتغنى بمناقب بعض الأولياء والصالحين بمنطقة الشاوية الساحلية ودكالة، وعبدة والحوز، مثل ساكن مولاي عبد الله بني أمغار دفين منطقة تيط بالجديدة، وساكن » مولاي إبراهيم » دفين منطفة « كيك » بأعالي جبال الأطلس الكبير بعيدا عن مراكش بحوالي 50 كلم، وساكن مولاي التهامي تكون عواني، دفين دوار لخلايف بمنطقة السوالم، وساكن الحاجة بنت الحاج….وساكن مولاي بوشعيب الرداد أبي السارية دفين أزمور، وساكن سيدي لحسن
الشريف قرب مدينة أزمور، ثم قصيدة « السوالم شرفا » التي تتغنى بالأصول الشريفة لقبيلة السوالم، وبمناقب وخصال وكرامات وأفعال بعض الأولياء المحليين والوليات الشعبيات بالمنطقة وما جاورها من قبيلة المزامزة بني مجريش الذين يشتركون مع السوالم في حلف تضامني اجتماعي ظل يجسده، إلى حدود سنوات التسعينيات من القرن العشرين، التنسيق والتعاون بين القبيلتين في عمارة موسم الولي الصالح مولاي التهامي الوزاني بالسوالم.
قراءة في أغنية « السوالم شرفا » للثنائي التهامي السالمي (الوتار) ومحمد السالمي (الطارة)، تسجيلات كازافون في نهاية 1960 (شريط 45 لفة). على ظهر الغلاف الكارتوني الأخضر صورة للفنان التهامي السالمي في شبابه ببذلة عصرية رمادية وقميص أبيض، ووجه أصهب باسم ورأس عال. عند تشغيل الشريط، وبعد سماع تشويش صوتي نسمع: تسجيلات كازافون…ثم ندخل مباشرة إلى سماع قصيدة « السوالم شرفا » التي يقول التهامي السالمي في مطلعها، وهو يجادل أو يحاور صوت أمه الغائبة/الحاضرة: « ياك قلتها ليك آمي ياك قلتها ليك/ ياك قلتها ليك راه السوالم شرفا »..إلى آخر الأغنية.(youtube.com/watch ?v=qujYh-QK0Og&t=168s).
إنها قصيدة سلالية محضة، تتغنى بجينيالوجيا المكونات السلالية والعرقية لقبيلة السوالم ،التي كانت تابعة حتى بداية القرن العشرين لقبيلة أولاد زيان، قبل تبعيتها لاتحادية قبائل أولاد حريز، قصيدة تتغنى بأماكن ودواوير وأضرحة أولياء الله الصالحين بتراب السوالم، وتدقق في ذكر بعض أسماء وأعلام ومعالم المنطقة من قبيل: سيدي دحمان، مول الكمري، سيدي المختار، بويا رحال، سيدي عابد، سيدي أحمد الكرشي، سيدي مرشوش، الشرفا العلويين، العباد، لخلايف، أولاد جرار، الكريشات، البوشتيين، أولاد مسعود، رجال لكبيب، رجال تنان، الهواورة، كريكيح…وهنا يبدو المنشد/الشاعر والمغني بمثابة نسابة يذكر ويمجد أنساب القبيلة و بعض الفخذات المحلية والمجاورة، بل وبمثابة رحالة أو باحث جغرافي أو إثنوغرافي، يحدد مجال المقدس والدنيوي في القبيلة، إنه يرسم جغرافية المقدس المحلي، من أولياء وصلحاء وصالحات محليات، ومن مزارات وكراكير وأحجار وأشجار وكرامات… فقصيدة « السوالم شرفا » أنشودة أو أسرودة إثنوغرافية تتغنى بالذاكرة الجماعية الغميسة، وبمكونات الهوية السلالية والإثنية المزيجة لقبائل السوالم وأولاد زيان، والمزامزة…من خلال التغني بطوبوغرافية المقدس فوق تراب السوالم والقبائل المجاورة، بحيث نجد الناظم أو المنشد يترجل ويتنقل من مكام أو معلم إلى آخر، من البوشتيين والشرفاء العلويين، إلى المزامزة وأولاد زيان، والشياظمة ورجراجة والغنيميين…إلخ، وكأنه جغرافي أو طوبوغرافي يضع معالم المقدس المحلي ويحدد حدوده، المجالية والسلالية…