من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة.

من التمدن إلى التحضر  أو  سؤال الحق في المدينة.
شارك

(الحلقة الثالثة):

 

التهامي حبشي/إعلامي وباحث سوسيولوجي:

 

    على المستوى الميكروسوسيولوجي للتمدن بالمغرب:

   يمكن القول، إنه مثلما تنامت وتوسعت مدننا على مستوى مورفولوجياتها، أي على صعيد سكانها ومجالاتها ونطاقاتها، تنامت أيضا وتعقدت مجالاتنا الحضرية، على مستوى تشكيلاتها الاجتماعية، وتركيباتها السوسيو مهنية، كما على مستوى ديناميات الإنتاج والاستهلاك فيها، الشيء الذي زاد من حجم الاختلالات الوظيفية، ومن حدة التفاوتات السوسيو مجالية، وعقد من طبيعة مشاكلها المجتمعية. وهو الواقع المركب الذي يستدعي ضرورة دراسة وتحليل، وفهم وتفسير ما يسميه ميشال أجيي ب » الأوضاع الأساسية للحياة الحضرية »، بهدف فهم ديناميات التموقع والتدافع  داخل نطاق ونسيج المدينة. ولعل هذا المسعى المعرفي الفاحص، يتطلب تحليل المدينة كمجال معاش،(المدينة المعيشة)، من خلال تمثلات وتصورات، وتصرفات وممارسات، وتجارب وخبرات الساكنة الحضرية، ومسارات الحياة اليومية للأفراد الذين يعيشون فيها، وشبكات الأماكن أو الفضاءات التي يرتادونها، والعلاقات والتفاعلات أو التبادلات المادية والرمزية، التي ينسجونها فيما بينهم؛ وذلك من خلال ملاحظة وتحليل مجالات وعمليات التنقل، والحركية السكانية، وأنماط الاستقرار أو التساكن والجوار، وإعادة التوطين، وحالات ومسارات الهجرة، أو الترحال والعبور من مكان إلى آخر.

 (ميشال أجيي، أنثروبولوجيا المدينة، ترجمة وتلخيص ومراجعة: سعيد بلمبخوث، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 2019، ص13).

  إن المدينة لا يمكنها أن تفهم، إلا باعتبارها ذلك المجال الترابي أو الفضاء الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي والثقافي، الذي يحيلنا بالضرورة على السوسيولوجيا، بل وبالأحرى، على الأنثروبولوجيا الحضرية ( محفوظ جلول،  » المدينة: المشاكل والآفاق« ، ضمن كتاب: المدينة والإعلام، جان فرانسوا تتي، ترجمة: عبد الله ثاني قدور، وهران، 6/2/2011،صص. 9-28)،ص.11.). فالمدينة ليست فقط مجرد وحدة جغرافية، بل هي خلية سوسيولوجية وشبكة أنثروبولوجية. إنها، من منظور مورفولوجيا موريس هالبواش وسوسيولوجيا إميل دوركهايم ، كثافة دينامية، كثافة مادية، وكثافة معنوية. فالمدينة، في نفس الآن، تراب وسكّان، إطار مادي وفيزيقي ووحدة حياة جماعية، إذ أنها تشكيل من الأشياء الفيزيقية، وعقدة من الروابط والعلاقات بين الذوات الاجتماعية.( Yves Grafmeyer ; Sociologie urbaine, Nathan, Paris,1994,P.8)). فما دامت المدينة تقدم نفسها للملاحظة المباشرة، كتجمع للسكان وكتركز للأنشطة فوق تراب معين، فإن هذا التقارب الجغرافي والفيزيقي، هو ما يسمح للكائنات الاجتماعية بالدخول في تبادلات وتفاعلات، وتفضيل نسج وتنمية وتطويرعلاقات اجتماعية جديدة ومتجددة، وهو ما يجعل من المدينة إطارا أو وعاء مفضلا للعيش المشترك، و مجالا لعقد عدة روابط وعلائق من التبادل والتفاعل، والتعاون والتضامن بين البشر(Grafmeyer.op.cit.p.8).

  ليست المدينة مجرد فسيفساء(Mosaique) على مستوى مورفولوجيا المجال والتعمير،

 أوفيزيولوجيا البناء وهندسة المعمار، أو على مستوى انتشار وتوزيع الأنشطة الاقتصادية والخدماتية، كما تبين  ذلك، عادة، تصاميم التهيئة العمرانية، والتصاميم التوجيهية

 للأنشطة الصناعية والتجارية، وكذا تصاميم استغلال المجال أو الملك العام، بل هي (المدينة)، أكثر من ذلك، زمكان، إنها مكان وزمان للتلاقي( Rencontre)، للتبادل وللاستهلاك، للزيارة وللتسوق، للتطبيب والتعلم والتثقيف، كما أنها ملاذ للتسلية والتنزه، والرياضة والترفيه. وبهذا المعنى، فالمدينة مؤسسة (institution) ، تساهم في التأطير الترابي للمجال، من خلال قيامها بعدة وظائف إدارية وسياسية، واقتصادية واجتماعية وخدماتية، تجاه مجال ترابي واسع أو محدود. وبهذا، تكون المدينة هوية وشخصية حضرية أو ثقافة حضرية، من حيث أنها تنتج وتنشر طرائق وكيفيات للوجود، وأساليب للعيش، وأنماطا من التمثل والتصرف والسلوك، ذات  تأثيرات وأبعاد جهوية، ووطنية، بل وكونية.( Grafmeyer.op.cit.p.15).وبعبارة أخرى، المدينة ليست مجرد وحدة ديمغرافية منسجمة، بقدر ما هي مجموعة بشرية واجتماعية مبنينة (.structurée)، تراتبية (hiérarchique) ومتفاوتة؛ فالمدينة هي التشكيل السوسيو مجالي الذي يتناسب مع الفئات أو التشكيلات الاجتماعية المدفوعة نحوها، أوالواقعة تحت وطأة الفوارق المجالية، القروية منها والحضرية، وما يرافقها من التفاوتات الموجودة بين الرساميل المادية والاجتماعية والرمزية بين الأفراد والجماعات، والأصول والفئات والسلالات، وكذا التباينات الحاصلة على مستوى الدخول أو الأجور والفئات السوسيو مهنية، من خلال خضوع المدينة لعمليات التعمير والتصنيع، والتجارة العابرة للقارات، وتأثيرات كل ذلك على التوطينات والتركيزات الترابية، والبنيات الحضرية في احتلال واستغلال المجال الحضري.( Grafmeyer.op.cit. p.31 ).

    بهذا المعنى يكون المجال الحضري نتاجا اقتصاديا واجتماعيا، من منظور سوسيولوجيا المدينة؛ بحيث تتميز الحاضرة، مقارنة مع البادية، بقوة تركز ساكنتها، ومقاولاتها، وأنشطتها وخدماتها.(Yankel Fijalkow, op.cit.p.7). ولهذا أقام كارل ماركس ذاك التقابل أو التعارض بين البادية والمدينة، والذي هو انعكاس للاقتصاد من منظوره.وهذا الطرح قريب من منظور المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون، الذي وجد » أن أصل الحضر بدو »، و » أن الحاضرة  » نتيجة لحياة الترف ودواعيه، فحين تؤثر الدعة والسكون في الناس يتجهون  إلى إنجاز المنازل للقرار والمأوى الذي وجب أن يراعى فيه دافع المضار بالحماية من  طوارقها وجلب المنافع، وتسهيل المرافق إليها ».(عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة). ومعلوم أن ابن خلدون يرى أن البداوة هي  الطور الأول لبناء الدولة ، يليها طور الحضارة التي عرفها على أنها  » تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوبه، ومذاهب من المطابخ والملابس والمباني.. فصار طور الحضارة من الملك يتبع طور البداوة ». وفِي موضع آخر، يقول صاحب المقدمة ما نصه: » البناء واختلاط المنازل إنما هو منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة…وذلك متأخر عن البداوة ومنازلها؛ وأيضا، فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير، وهي موضوعة للعموم لا للخصوص، فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون ».(مقتطف من كتيب  » المعمار الإنساني أولا » ترجمة محمد الأسعد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت مقالة على النت، سابا جورج شبر، العربي الجديد 29 أبريل 2016). إن فكرة الدواعي الاقتصادية والاجتماعية لنشوء الحاضرة، عند ابن خلدون، نجدها حاضرة عند المؤرخ بول بايروخ (Paul Bairoch)، الذي يرى بأنه  » لم يكن ممكنا بروز المدن  إلا في إطار توزيع فائض القيمة الزراعي »، مضيفا الى ذلك، عامل التعمير، تحت ضغط الاستعمار الأوربي، وعامل الاتجار والابتكار، بفعل عملية تنقيد المجتمع، وما واكبها من حركيّة مجالية قوية (الهجرة القروية)، واجتماعية للسكان، ودرجة التناسب بين  العرض والطلب في سوق الشغل، ومدى  توفر اليد العاملة والمؤهلة، بالإضافة إلى  توسع انتشار فائض الإنتاج الفلاحي،

 وتطور الإنتاج الصناعي Yankel Fijalkow; op.cit,p.7).). أما على المستوى الماكرو سوسيولوجي الحضري، فيمكننا النظر إلى المجال الحضري،  » كحيز مكاني عام بما

يشتمله وينوجد فيه (Henri Lefebvre, Espace et politique ; Ed.Anthropos, Paris, 1972,P.35)، أو من حيث « هو التعبير أو التصورالذهني الذي يمكن اعتباره نظام علاقات بين عناصر بنيوية مركزة في حيز معين. »(Paix Catherine, »Approche Théorique de l’urbanisation », Revue Tièrs monde,N°50,1972,P.272).

 فالمجال، إذن، كمعطى سكوني وراسخ لا وجود له، وبالتالي، لا يأخذ مفهوم المجال معنى مضبوطا إلا في تفاعله مع الإنسان، الذي يغيره تبعا لضرورات وحاجيات اقتصادية سياسية، وربما عالمية (د.رحمة بورقية، مرجع سابق،ص.135) جعلت الباحث الجغرافي ملتون سانتوس يرى  » بأن المجالات، في البلدان المتخلفة، تتميز بكونها تنظم نفسها، وتعيد تنظيمها، تبعا لمصالح بعيدة تكون في غالب الأحيان على مستوى عالمي. » (Melton Santos ; L’espace partagé, Ed. Génin, Paris,1975,P.16). وبعبارة أخرى، لجغرافي آخر هو مانويل كاستلز، المجال هو » التعبير الملموس لكل مجموع تاريخي اجتماعي متميز، فهو نتاج مادي على علاقة مع عناصر أخرى مادية بدورها، ومن بينها البشر الذين يقيمون علاقات اجتماعية تعطي للمجال، ولمختلف العناصر الداخلة في تركيبه، شكلا معينا ومعنى اجتماعيا » (Manuel Castels : La question urbaine, Ed.Maspéro, Paris, 1977,P.56.). وبهذا المعنى، يكون المجال بدوره إنتاجا اجتماعيا  (Grafmeyer.op.cit. p.24)، بل » وسيلة أيضا لإعادة إنتاج روابط الإنتاج الاجتماعية »

 ( Scheibling Jacques, «  Débat et Combats sur la crise de la géographie », Revue de la pensée, N°94,Année1977,p.56). فإذا كانت المدينة، كمجال مبني أو مشيد، يتركز فيه أكبر عدد من الأشياء والأشخاص، فهي مجتمع يتميز بمجموعة من العلاقات الاجتماعية، التي تربط بين البشر، وتسمح لهم بالتحويل الجماعي لوسطهم الطبيعي أو الإيكولوجي، وإعطائه وظيفة ما أو معنى معينا، فكل مجال آهل ومسكون ومستغل، يحمل سمة أو علامة الأنشطة الإنسانية المرتبطة به والدالة عليه. ومن هنا، فالمجال الحضري وسط إيكولوجي مليء بالطرق والبنايات، والأحياء السكنية، والمعالم التاريخية كذلك..،وهو أيضا وسط  أنثروبولوجي ورهان سوسيولوجي، لأنه غالبا ما يكون مدار تنافس أو تنازع بين الناس حول الأرض، والحيازة، والملكية المادية أو الرمزية…؛ وهو بذلك، محط مراقبة وتفاوض حول المراكز، والهوامش والضواحي، ومحط تنافس ونزوع وتسابق للولوج إلى التجهيزات والخدمات الأساسية…( Grafmeyer.op.cit. p.25 ).وعلاوة على ذلك، فالمجال الحضري رهان للهيمنة السياسية القائمة على المنافسات الترابية، بكل أبعادها الجغرافية أو المكانية والاقتصادية،والاجتماعية والإيديولوجية.( Grafmeyer.op.cit. p.26 ). بحيث تتم القراءة السياسية للمجال في علاقته بالنظام المؤسسي والتنظيم الإداري ، أي الجهاز، أو الإفراز، السياسي للتشكيلات الاجتماعية  المكونة له.(د. عبد الله إبراهيم، المسألة السكانية  وبنية المجال العربي، دراسة توثيقية تحليلية نقدية، سلسلة دراسات المجال العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1991،ص.25). ولهذا، غالبا ما توجد المجالات الحضرية خاضعة لسياسة المدينة، جماعات الضغط ولوبي العقار، وبالتالي، متحولة باستمرار، بفعل تدخلات الوكلاء أو الفاعلين الترابيين، الخواص منهم والعموميين، كالمنعشين العقاريين، والسلطات العمومية، والمنتخبين والمقاولين، وحتى السكان المالكين للعقارات الاستراتيجية، (Grafmeyer.op.cit. pp.98 -99 )، علاوة على الفاعلين المنتسبين لجمعيات البيئة والأحياء السكنية، وحقوق المستهلكين للسكن الاجتماعي والملاك والمكترين…وبهذا المعنى، فقد تحول مفهوم المجال (الحضري) كوسط إيكولوجي، وكنتاج اجتماعي وتاريخي أيضا، من مجرد وسط  طبيعي أو مشهد عمراني، إلى مفهوم التراب (Territoire) »؛ بمعنى مجال متملك ومراقب ومحدد، من طرف مجموعة بشرية معينة، ويتطلب وجود جماعة بشرية، خلافا للمجال، فمن أسس التراب التملك الجماعي المادي والرمزي، من حيث هو ملك للجميع، ومن  حيث هو صورة للمجموعة والانتماء والهوية. »(د.المصطفى دليل، هندسة التنمية الترابية بالمغرب، ديناميات التغيير ورهانات الجهوية المتقدمة، مطبعة دار السلام، الطبعة الأولى، الرباط، 2020، ص.85).

  ومن هنا، فالتراب، أو بالأحرى الترابات (Territoires)- بصيغة الجمع والتعدد

 والتنوع ـ هي رهانات اجتماعية واقتصادية، وسياسية ورمزية، تعج بالتدافعات والنزاعات والتنافسات البشرية. وبالتالي، لا ينبغي اختزال مفهوم التراب في خاصية التملك أو الحيازة، بل » إنه في الواقع أكثر من ذلك بكثير، أي أنه نظام فاعلين في حالة توتر وتوازن حول أفعال »، بتعبير الباحث ألكسندر موان.(أنظر في هذا الصدد: د. المصطفى دليل، نفس المرجع، نفس الصفحة)، أي أنه كيان بشري وإداري، قانوني وإيديولوجي، قيمي وثقافي، عاكس لحالة معينة من السياسات الترابية (Territorialité)، ولنمط  معين من التدبير الترابي، يقتضي اليوم وغدا ما بات يسمى بالاستتراب (Territorialisation)،

على مستوى إعداد وتنفيذ سياسات التنمية والتهيئة الترابية، ضمن سيرورة تشاركية بين مجموعة من الفاعلين والمتدخلين، الخواص منهم والعمومين.( أنظر في هذا الإطار: د.عبد الله شنفار، الفاعلون في السياسات العمومية الترابية، سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية، عدد 130، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، مطبعة البيضاوي، ط1، سلا، 2020، عدد الصفحات 520.). هذا دون أي إقصاء أو تهميش للمواطنين أو السكان المنظمين، من أجل حسن صنع التراب وإنتاجه، وتحويله وتطويره، وتسويقه لجني ثماره ومنافعه، بشكل عادل ومنصف للجميع؛ عبر ديناميات تحرر الطاقات وتتيح الفرص لإدماج الجميع، قصد المشاركة في خلق الثروة والتقاسم المشترك للمنافع، لاستعادة الثقة والمسؤولية، وتوطيد الروابط الاجتماعية، لخلق مجتمع الاندماج والتمازج الاجتماعي، كغاية سوسيوسياسية منشودة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *