من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة
(مقاربة سوسيو سياسية أنثروبولوجية)
التهامي حبشي/ إعلامي و باحث سوسيولوجي.
الحلقة الرابعة
ترهين سؤال الحق في المدينة: واقع الحال والرهان:
يحيلنا مفهوم الفاعلين الترابيين في حقل إنتاج وإعادة إنتاج المجال الحضري، إلى إعادة تحيين طرح سؤال الحق في المدينة. فلا يمكننا فهم فكرة الحق في المدينة بدون مساءلة الإنتاج الاجتماعي للمدينة؛ وذلك من منطلق أن الحاضرة، من منظور هنري لوفيفر، في كتابه المميز » إنتاج المجال« ( Henri Lefebvre ; La production de l’espace,1974 )، هي حصيلة تفاعل الديناميات التي تخترق نسيجها، والتي تكون نتيجتها هي المورفولوجيا الاجتماعية الحضرية؛ وبناء عليه، فإن تناول إمكانية أو فرضية الحق في بناء وتشكيل المدينة، مسألة لا تستقيم، بدون استحضار النظر إلى علاقات السلطة، وتراتبيات الهيمنة المادية والرمزية، بدءا من السلطة السياسية، مرورا بالسلطة الاقتصادية، ووصولا إلى سلطة الفعل السكاني الجماعي، المدني منه والحقوقي والجمعوي.(Mattias Lecoq ; »Le droit à la ville :un concept émancipateur ? », Métrpolitiques, 16 décembre 2019, URL :https :www.métropolitiques.eu/le-droit-a-la-ville-un-concept-emancipateur.html.).
الآن هنا، وفِي سياق الاستحقاقات السياسية الراهنة، من المفترض، أن لم يكن من المفروض، أن تبلور النخبة السياسية، التي ترشح نفسها لتسيير أو تدبير المدينة، مشروعا أو على الأقل، برنامجا حضريا جديدا، قائما على أساس تفكير، سياسي ومدني، جماعي ومشترك، حول حال ومآل، أو واقع و رهان المدينة… مشروع جماعي حداثي عقلاني، تشاركي واستشرافي، يكون أسه الأساس هو تحقيق مطلب الحق في المدينة، انطلاقا من مبدأ الحق في التحرر بواسطة التحضر؛ ذلك أن التمدن (Urbanization) ــ في بعده التعميري التقني فقط ــ، غير كاف لتمثل أو فهم العيش في المدينة، بينما التحضر، أو بالأحرى، الحياة أو الروح الحضرية (Urbanism)، هو مفهوم أعمق، لأنه يشير إلى اكتساب الناس، حتى في الأرياف، لأساليب الحضر، وذلك عبر عملية الانتشار الثقافي، حسب عالمي الاجتماع الأمريكيين هوروفيتز وبيكر (Horowitz and Becker; 1970 ). وهي العملية التي غالبا ما تسبقها، أو ترافقها، سيرورة التنشئة الحضرية على قيم المواطنة والبيئة، والتعاون والتضامن، والروح المدنية أو الحضرية….فمن المفترض أن تكون الحياة في المدينة، أو الحياة الحضرية، وجها من أوجه الحياة الحداثية أو حياة الحداثة، ذلك إذا ما علمنا أن للحداثة وجهين أساسيين، هما « الحادثة المادية، وتعني التحسينات التي تلحق الإطار الخارجي للوجود الإنساني، والحداثة الفكرية، وتعني الرؤية والمناهج والمواقف الذهنية، التي تهيئ تعقلا يزداد تطابقه بالتدريج مع الواقع« ( محمد سبيلا، مدارات الحداثة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2009، ص.129.) فالحياة الحضرية المفعمة بالروح المدينية المدنية ( L’esprit civique) تطابق أو تتناسب مع روح الحداثة، والتي ليست هي إلا تلك النزعة الإنسانية التي تشكل الأرضيّة الفكرية التي نشأ في حضنها الفكر السياسي الديمقراطي والعقلاني، وخاصة منها منظومة حقوق الإنسان، بما فيها الحقوق الطبيعية، كالحق في الحياة، والحقوق المدنية المنصوص عليها في القوانين الوضعية، كالحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ( محمد سبيلا، الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010،ص.9.). ولعل مهمة التحديث الفكري أو الذهني، من خلال زرع وترسيخ ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وروح المواطنة والحياة المدنية أو الحضرية، مهمة موكولة في جزء كبير منها غلى النخبة السياسية و حليفتها من النخبة الثقافية.فإذا كانت النخبة السياسية هي « نخبة النخب » أو « سيدة النخب »، من منظور المفكر محمد سبيلا، نظرا لمكانتها المتميزة، ونزوعها الدائم إلى حيازة السلطة، واستعلاءها على باقي النخب، كالنخبة الاقتصادية والنخبة الثقافية. فإن هناك علاقة تشارطية، من منظور المفكر الفرنسي المعاصر ميشال فوكو، بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية أو المعرفية، نابعة من علاقة السلطة بالمعرفة بشكل عام، من حيث أن كل واحدة منهما تنتج الأخرى. ووفق هذا المنظور، فالطبقة السياسية تحتاج إلى فئة المثقفين » لبلورة ملامح الوعي التاريخي للحظة، واستشراف آفاق تطور النظام السياسي وصيرورتها، وعلى تشكيل البعد اليوتوبي الكفيل بتعبئة كافة القوى الاجتماعية من تحقيق تغيير ذي ملامح وردية » (محمد سبيلا، في تحولات المجتمع المغربي، دار توبقال للنشر، ط 1،الدار البيضاء، 2010، ص.128.).
ووفق هذا المنظورـ على الساكنة الحضرية، بكل مكوناتها السوسيومهنية، وفعاليتها المدنية والجمعوية، وفِي طليعتها النخبة السياسية والمدنية، أن تولد تفكيرا حضريا جديدا قائما على أساس الحق في المدينة، لضمان كسب الرهان في ما سماه إدريس بنهيمة ب » معركة المدينة » (Driss Benhima ;op.cit)، اَي، لربح معركة الكفاح من أجل ضمان الحق في العيش داخل المدينة، من خلال كسب الحق في السكن، والحق في الشغل، والحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق الملكية…وقبل كل ذلك، ضمان الحق في الحياة، وفي الحرية، وفِي العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية’، أي الحق في ما سماه هنري لوفيفر بالتفرد والاستقلالية في التنشئة الاجتماعية (Henri Lefebvre ; L’exercice droit à la ville, Ed.Métispress, 2018)، ولن يتم ذلك إلا بانعتاق الأفراد بالمدينة من قيود الانتماءات والتبعيات الشخصية والقبلية، وقدرتهم على الانطراح في منطق الاختيارات العقلانية والالتزامات القانونية، التي يتمثلها الكل، ويمتثل لقوانينها الجميع( روح القوانين حسب مونتسكيو). وربما لهذا السبب، أو لهذه الغاية، عرف السوسيولوجي لويس ويرث، من مدرسة شيكاغو الأمريكية في السوسيولوجيا الحضرية، المدينة بكونها ذلك « المركز الذي تنتشر فيه تأثيرات الحياة الحضرية إلى أقصى جهة في الأرض، وفيها أيضا ينفذ القانون الذي يطبق على الناس » ( د. حسام صالح، علم الاجتماع الحضري، تنسيق أبو فيصل(KFU)، جامعة الملك فيصل، الرياض، بدون تاريخ،ص.21).
لقد لاحظ د. عبد الله إبراهيم أن العديد من التعريفات للمدينة والتمدن، تنطلق من منطلق كمي فقط، وأن الاكتفاء بالمؤشر الكمي لن يوصلنا بالتأكيد إلى الخصائص الرئيسية المميزة للظاهرة المدينية الرأسمالية.( عبد الله إبراهيم، المسألة السكانية وبنية المجال العربي، مرجع سابق،ص.105). من منظور اجتماعي كيفي، لا يزال هناك استمرار للروابط القروية والانتماءات الاجتماعية التقليدية في أغلب المدن المغربية، ولا سيما الصغرى منها والمتوسطة، فلا يعني التركز السكاني الكثيف في هذه المدن، أن سكانها فعلا من الحضر، ثقافة وسلوكا، بل إن جزءا منهم هو امتداد لحياة البدو داخل المدينة، ولا يضيف شيئا للحياة الحضرية أو الحياة العصرية الحديثة. ولهذا تعيش أغلب المدن المغربية، على غرار أغلب المدن العربية اليوم، » أزمات تحضرية وحضرية، فجزء كبير من سكانها هم من البشر الذين لا تستطيع المدن امتصاصهم أو هضمهم، وهكذا ينتقل الريف إلى المدينة، ويتحول هذا الريف جزئيا إلى بشر غير منتج، عاطل عن العمل، ينتظر المساعدات والإعانات من الآخرين. »( فوزي رضوان، » أنماط التجمعات في الوطن العربي: دراسات في المجتمع العربي »، اتحاد الجامعات العربية، 1985،ص.168). فمشكلات التمدن بالمجتمع المغربي، لا تحصى ولا تعد، وهي لا تخرج عن نطاق معضلات التمدن بالعالم العربي المعاصر، ومنها الاكتظاظ أو الازدحام الناتج عن درجة تركز عالية للسكان والأنشطة والخدمات والوسائل فوق حيز جغرافي ضيق، وتدهور المحيط أو المشهد البيئي، وتناسل أحزمة الفقر والسكن العشوائي، والترييف (Ruralisation) الذي يطال العديد من وحدات السكن ومكوناته وملحقاته، ويمتد ليمس كيفيات تعامل السكان مع طرقات وساحات وأسواق وميادين المدينة،..( د. مصطفى عمر التير، اتجاهات التحضر في المجتمع العربي، منشورات المؤسسة العربية للنشر والإبداع، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1995،ص.ص.99-100). ومن مشاهد الترييف، التي غدت مألوفة ببعض المدن المغربية، وجود بعض البهائم والحيوانات في المناطق السكنية، وعلى الطرقات والشوارع العامة، إذ يقوم بعض السكان بتربية قطعان من الماشية في محلات سكناهم، ويتجولون بها في وسط الأحياء السكنية…، هذا، علاوة على إقامة الأسواق العامة حيثما اتفق، حيث يعمد عدد من الباعة (الجائلين؟) إلى احتلال مكان عام ونصب الخيام، وتثبيت العربات المجرورة أو المدفوعة على ناصية طريق، أو في وسط أحد الأحياء، وتحويلها إلى نقط لبيع بضاعتهم، مما يعرقل حركات المرور والسير والجولان، ويلوث المحيط البيئي للمدينة…
وعلى العموم، هناك ملاحظة لا تخطئها العين بمدن المغرب، وهي مفارقة في المعيش الحضري، المغربي والعربي،( والعالم الثالث) على العموم، بين درجة التمدن وغياب الروح الحضرية، ذلك » أن إحدى مظاهر التحضر البارزة في العالم العربي هي الانفصال بين التحضر كظاهرة ملموسة بحثة ــ تقاس بالكثافات الحضرية والغلو في التركيز على المدن الرئيسية والهجرة ـ وبين الحضرية كظاهرة نوعية واجتماعية وثقافية ــ تقاس بما يعرف بالروح الحضرية التي تتميز بالانفتاح والحيوية والاهتمامات العقلية والشبكات الاجتماعية التي تنعدم فيها العلاقات الشخصية، وقد دلت الدراسات المتكررة على أن التغيرات في الناحية الأولى، رغم عظمها وبعد أثرها، لم يرافقها تغير ملحوظ في الحضرية كأسلوب معيشي » ( د. سمير خلف، » بعض المظاهر البارزة في التحضر العربي »، مداخلة ضمن أشغال المؤتمر الدولي حول التحضر والتغيير الاجتماعي، مجلة الفكر العربي، عدد 43، السنة 1986، ص.147). مجالاتنا الحضرية في مرحلة انتقال قوية، من التمدن ( أو التحضر الكمي)، باعتباره امتدادا مجاليا للمدينة تهتم بدراسته الجغرافيا، أو باعتباره نموا سكانيا تهتم بدراسته الديموغرافيا، إلى التحضر النوعي أو الكيفي (أو الروح الحضرية)، باعتباره انتشارا لنمط عيش خاص، هو نمط العيش الحضري، وهو ما تهتم بدراسته السوسيولوجيا أو علم الاجتماع (د. عبد الرحمن المالكي، الثقافة والمجال..، مرجع سابق، ص.ص.23-24)، بل الأكثر من ذلك باعتبار هذه الروح الحضرية هوية وشخصية وثقافة حضرية، تهتم بدراستها علم الإناسة أو الأنثروبولوجيا. إن التحضر، بهذا المعنى السوسيوأنثروبولوجي الدينامي، سيرورة (Processus)، تتم في الزمان والمكان، وتساعدنا على المقارنة بين حالة وضعية ما في الزمن (أ)، وحالتها في الزمن (ب)، لنرى هل المسألة تتعلق بتغيير حصل في الوضعية، أم أن الأمر يتعلق فقط بعملية إعادة إنتاج؟ ثم تفسير ذلك؟ لماذا؟ وبأي معنى؟ وكيف حصل ذلك؟.(Jean.Remy et Liliane Voyé ; La ville et l’urbanisation,Modalités d’analyse sociologique, Ed. DUCULOT, Coll. Sociologie Nouvelle;Paris, 1974 , P.66). لنخلص مع د. عبد الرحمن المالكي إلى أن « التحضر الذي يعطيه له علماء الاجتماع اليوم..، ومن وجهة النظر السوسيولوجية، يعني بالأساس تحقق أربع عمليات اجتماعية أساسية بالتوازي وبالتزامن، والتي تتجلى في: أــ التحضر كعملية تنشئة اجتماعية + ب ــ التحضر كعملية اندماج أو إدماج حضري + ج ــ التحضر عملية كثاقفة أو تثاقف حضري + د ــ التحضر كعملية إعادة بناء وتشكل الهوية » (د. عبد الرحمن المالكي، الثقافة والمجال…مرجع سابق،ص.25.). ومن هذه الرؤية السوسيو أنثروبولوجية المندمجة، لا يمكن فصل رهان المندمجة عن الخيارات المرتبطة بالحكامة الحضرية والديمقراطية المحلية، ما دام إعداد التراب يتجه، شيئا فشيئا، ليغدو شأنا محليا يخول لكل جماعة ترابية الحق في العناية والاهتمام بعمليات الإعداد الترابية التي تراها ضرورية وملحة لتنمية مجالها. (Yves Madiot et Renan Lemestre, Aménagement du Territoire, 4eme, Ed. A .Colin, édition, Paris,2001,P.46). وهو الرهان الذي لا يمكن كسبه بدون إرساء ودعم آليات المشاركة الديمقراطية للساكنة الحضرية في تخطيط وتدبير شؤون مدنها وأحيائها، والتنسيق بين ثالوث السلطات العمومية، والسلطات المنتخبة، و سلطة المجتمع المدني، لتطوير العاقد والتشارك كنمط للتعبير عن التوافق في تهيئة وتأهيل التراب المحلي، وفي التخطيط الحضري الاستراتيجي، الذي يضمن المشاركة والالتقائية، والجودة والفعالية، والشفافية والمسؤولية، بين مختلف الفاعلين والمتدخلين في صنع أو إنتاج المدينة.