على هامش ندوة التسامح الديني..
د. سعيد ألعنزي تاشفين
» التقى الخيام بالمعرِّي في سماء أخرى وقد عاد إليه بصره. سأله أين أنت ذاهب ؟ قال أبحث عن مكان أطل به على الأرض، أريد أن أجرب عيوني عليها من بعيد.. الآن رأيت السماء بها فقط .. لم أر الأرض من قبل .
تركه المعري باحثا عن زاوية تطل على الأرض تلفَّتَ في البلدان من أعلى سمائه، فشاهد جيشا يمر على مدينة، تابعه، شاهد كل الفجائع.. بقيت عينه على طفل قُتِل أهله، فبقي وحده في العراء لأيام، يأكل بقايا الطريق.. جاع في البرد، نام في البرد، بكى في البرد، اتكأ على صفيحة وسط حيطان في خربة .. اشتاق لأهله، رفع رأسه للسماء لعله يراهم.. قال: إلهي أنا لا أرى أهلي، ولكنك ألا تراني؟ تمدد على التراب، أسند رأسه على خشبة ملقيه، البرد يخترق جسده، أغمض عينيه، بقي المعرِّي هذي الليلة يراقبه للصباح.. مر عابرٌ جوار الخربة فرآه، لفَّ الطفل بمعطفه.. مد يده على وجهه يتلمسه، لم يستيقظ الطفل، لأنه ليست أمه من نومته، الموت من نوّمه. تندم المعري على عودة بصره وردد ب » قرآنيه » أُخرى » و القلبِ وليالٍ نهبٍ ، والسلمِ و الحربِ ، إنه لألمٍ عظيم » .
أنطلق من هنا عابرا حدود عبد الرزاق الجبران صاحب اللاهوت الجديد، نحو ما عاشته أمة اقرأ من انحرافات على أشلاء العقل، لعلي أفلح في تجديد الذكرى أن تاريخية العقل الإسلامي لم تكن دائما إيجابية و مستقرة، حيث إن محطات متعددة ظلت تشهد بما حل بالعقل من محن ولا عذابات. إذ منذ إخوان الصفا وخلان الوفاء أصحاب الرسائل الفريدة، إلى التوحيدي صاحب جدليات الهوامل والشوامل، نحو إبن رشد الذي خصص دفوعا صلبة لصالح مشروعية الفلسفة التي كفرها الغزالي صاحب فيصل التفرقة ما بين الإسلام والزندقة، إلى ناصر حامد أبو زايد فرج فودة وهشام جعيظ ومحمد أركون والعروي واللائحة تطول لتشمل كل رواد التنوير على طول أمة اقرأ التي لا تقرأ، كان العقل ضحية لتغول السلطة التي استثمرت في الجهل والتجهيل، فهمشت اللغوس وحابت الميتوس ، فحصلت الردة بمحاصرة العقل و تبخيس المنطق .
لقد شكلت الندوة الفكرية حول تيمة التسامح الديني فرصة متاحة لملامسة اللامفكر فيه في تاريخ العقل من داخل ما سماه أركون بالإسلاميات التطبيقية . وحسبي أن نسب محاكم التفتيش لأروبا دون غيرها يزيغ عن الصراط المستقيم ، على اعتبار أن محنة المعتزلة منذ ابراهيم ابن سيار النظام وفريق المتمردين على أبي موسى الأشعري، إلى العقلانية الرشدية التي انتقلت إلى المسيحية عبر توماس ألاكويني، نحو الرشديون الجدد ، يفيد في البرهنة على كون دار الإسلام لم تكن بمنأى عن محاكم التفتيش التي قضت مضجع العقل واعتقلت اللغوس في زنزانة الفقه الإيديولوجي السلطوي، وبالتالي عبدت الطريق للفهم الأشعري على نقيض التأويل الاعتزالي الوجود .
لقد كانت الندوة مناسبة لاستفزاز الإشكالات الكبرى التي واكبت محنة العقل و ظلت حاضرة في العقل المعاصر في دائرة اللامفكر فيه. ولعمري إننا نحتاج فعلا إلى مزيد من النقاش المعرفي الجاد حول مختلف القضايا الإبيستيمولوجية، لعلنا ننجح في تجاوز كل هذه التفاهة التي تسيج كل الفضاءات الرمزية و تستفيد من الجهل المؤسس و من نخب الضبط السيكولاستيكي ومن مناخ الغيبوبة الفكرية التي تشكل عنوان أمة احتقرت مقدمة إبن خلدون و مجدت المؤخرات ؛ فضاع العقل في متاهات التجهيل واستأسد منطق المعدة و الجسد .ش