سلطة العولمة على قاعدة انحرافات الديموغرافيا ؛ تأملات في الثابت و المتغير

سلطة العولمة على قاعدة انحرافات الديموغرافيا ؛ تأملات في الثابت و المتغير
شارك

سعيد أولعنزي تاشفين

   إن دخول العالم نفق العولمة على إثر سقوط حائط برلين و ميلاد النظام العالمي الجديد و بداية مسلسل أمركة النظم الماكرو – سياسية لصالح شروط اقتصاد السوق الذي أعلن موت الله و اندحار كل أنساق الممانعة الفكرية لصالح وحدة المصير البشري تحت سلطة السوق عبر الإعلام الذي يعبِّد الطريق لمنطق الهيمنة بما يوطد عرى التحكم في رقاب البشرية عبر أدوات الحروب الناعمة التي تخلق الحرائق دون نار و المعارك دون ضجيج . و تتميز الحروب المعاصرة بانعدام حلبة الصراع ، فلم تعد تقام في حلبة او حلقة أو ميدان يحدد سياق الصراع و يوجه القذائف صوب غايات الحرب و أهدافها . فصيغة الحرب اليوم تميل تدريجيا نحو استبعاد كل سلوك فروسي ( الفروسية / البطولة ) مضبوط عبر إعادة هيكلة الهولامية، كشكل مباشر للحروب الجديدة على منوال الرأسمال ، و بذلك تصبح الحروب مجردة عن الجغرافيا و متعالية عن التاريخ ، و تتعمق باعتبارها جريمة محضة و اغتصابا مرنا . إن حروب العولمة أكثر قذارة و اكتساحا ، مُتلفة و مُكلفة ، تتطلب أشد التضحيات و تحمل أبشع المأساة و تخلق الجثامين دون هوادة و بلا صُراخ . إنها نوع جديد من الحروب أكثر ذكاء من حيث قدرتها على اقتناص الأرواح،  وخلق البلبلة دون تكاليف و بميكانزمات أكثر اكتساحا عبر ابتزاز الأنظمة و توريط الشعوب في مصائر مشبوهة و تحريض الهمم لقبول التحول بالصورة الإعلامية . إن ممارسة العنف بذكاء استراتيجي يشكل العنوان الأبرز لحروب العولمة و لمختلف أشكال التسلط المنهجي المؤسس على توصيفات دقيقة جدا لا تُرى سوى بالمجهر النقدي المركب عبر الإنفلات من  ممانعة و من كل مبدا أخلاقي و بعلة امتدادها لتشمل كل شيء و كل الناس كشكل من النكبة أو البَلية التي لا تعقل و لا تطاق ، لكنها تنال من الأرواح بصمت و وِفق طقوس المواءمة الاضطرارية من مداخل المختبر و العلم من داخل العلب المغلقة التي خلقت عالما أخر منذ ميلاد توصيفات الجمرة الخبيثة و جنون البقر و أنفلونزا الطيور ثم الخنازر ثم إرباك المسلمات السياسية بين الدول بأدوات تسريب الخبايا كما وقع مع ملف ما سمي بتسريبات ويكيليكس التي أزعجت الكثيرين كابتزاز مخيف .

   إن هذه الحروب الذكية تثير في نفوس الناس مشاعر انبهار أمام رائحة الموت الناعم . إنها ترسانة من دعايات تُنشد التطبيع مع أسطورة النهايات على شكيلة نهاية التاريخ و الإنسان الأخير كمظهر صاخب لانتصار الليبرالية المتوحشة من نيتشه ، و تخريب ما بعد الحداثة بفؤوس الجينيالوجيا ، إلى فرنسيس فوكوياما و دهاليز العام سام التي تخطط لرأسمالية الكازينو ، و نهاية الأيديولوجيا على أشلاء دستون دوتراسي الذي نحت المفهوم و كارل منهايم ، و نهاية الفلسفة كمقاومة فكرية لصالح مأسسة التفاهة ، و نهاية الجغرافيا باغتيال الحدود السياسية لصالح مرونة عبور الرأسمال و المستثمرين على مقاس النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، و نهاية كل الأنساق النظرية العابرة للثقافة العالمة و التي تعاند سيلان مجرى وادي العولمة و بما يكيِّف الميزاج الجمعي و يروِّضه لقبول السقوط الإكلينيكي من خلال جنس جديد من الأسلحة الفتاكة بلا دخان و بلا نار وسائله الصورة و العلامة و الرمز و الخبر في اتجاه كل مقومات البروباغوندا النسقية خدمة لأجندات الهيمنة . إنها  » بيداغوجيا  » تذكِّر الفرد بأنه ليس سيد مصيره ، و بأن القوى العليا التي تتحكم فيه أصبحت قوى مستوطنة للأرض و عليها تحيا و محرابها المختبر و ساحتها العلم كسلطة نيو – استيطانية تتحكم في علاقات العرض و الطلب لضمان توازن السوق خدمة لرهانات اليد الخفية التي تعيد احتلال الأوطان من مدخل دعه يعمل دعه يمر القديمة – الجديدة من دون دبابات و لا صواريخ عابرة للقارات و بذكاء أكبر مما كان عند أدم سميت و دافيد ريكاردو و حتى لدى كينز بدولة الرفاه الدركية . وبهكذا تأويل تعسفي للنيو – سلطة نكون إذن أمام ترويض الأزمنة الراهنة لتتحمل الاختبار الأسمى لإخضاع الجغرافيا لمسح التاريخ و لإخضاع التاريخ لمقولة الربح وحده لا شريك له كتجل للعولمة التي تُخضع الكون بمقولة اقتصاد السوق كما تخطط له ميتروبولات النيو – كولونيالية .

     و لعمري إن اخضاع الاستهلاك لقوالب المدنية المعاصرة ، حضارة الموت المنهجي ، و وفق مختلف طرائق التنميط و القولبة ، يحقق إشباعا لكل الغرائز التي تكبتها ( من الكبت ) ماكينة الرعب المحاصِر للأنماط . فالتحرر من تعب الحياة و تناقضاتها  لا يتحقق إلا بترميم الصورة عن الموت و جعله البديل المنتظر لحلول السلام ؛ و منذ مالتوس و لازمة عدد السكان الذي ينمو بمتتالية هندسية و الاقتصاد الذي ينمو بمعادلة حسابية تحتاج الدوائر العليا للرأسمالية إلى تنظيم التوازن الديموغرافي من خلال ضبط معدل الولادات عبر التحكم في الوفيات من مداخل متعددة تمتد من مالتوس نحو هنري كيسنجر لتبلغ مبلغ الفوضى الخلاقة و ابتزاز الأنظمة بتحريض الشعوب و إيقاف الديناميات الجماهيرية في منتصف الطريق كتجل لمفهوم الدول الفاشلة في مناطق المجال الحيوي الذي يُسيل لعاب المانفاكتورات ومخططات  » البيزنس  » الرأسمالي العابر للحدود . فالتحرر من الحياة المقيدة بشتى أنواع المحظورات و بأنماط اللياقة المحترسة لن يتأتى سوى بالحرب كزمن مقدس للتضحية ، و سقوط الأرواح محفوف بالقدسية لأن الأموات شهداء عند الرأسمال ؛ و ما رمزية الصورة و سلطتها سوى مقدس  » سحري  » يشرعن الموت و يزيل عنه هالة الخوف و يطبِّع معه وفق براديغم جديد يُسلعن الحياة و يشيئ العمر و يجعل البشر مجرد رقم تافه في معادلة الربح الذي ثم تنصيبه دينا جديدا و عقيدة راسخة بردهات الكازينو و لو على أشلاء المتاجرة بالأعضاء البشرية و خلق بؤر التوتر لتيسير بيع الأسلحة . إن الشهادة استنزال للمتعالي التيولوجي لشرعنة لعبة الحرب على الجغرافيا اللامكانية لافتتاح تاريخ جديد في بحبوحة المكان المتعالي بالمقدس لصالح الربح الذي يراهن الكوكب الأزرق عن بكرة أبيه بين مخالب الشركات العابرة للقارات و التي تحتكر ميزانيات أكبر بكثير من ميزانيات عشرات الدول بشطر الجنوب / الهامش الذي يزيغ عن مسيرة العولمة و يظل مستهلكة حسب الشروط كعقد إذعان . فالخطر المحذق خطر مقدس بقدسية فكرة الاستهلاك و طاهر لكونه زمن إنكار الذات و زمن التجاوزات و قبول الاندحار مهما تكن الدواعي على شظايا القبيلة و العشيرة و العائلة نحو تقديس الفرد النمطي المنسجم مع شروط الهيمنة المعولَمة . إن المختبر كأداة للفعل نجح في ترويض الوفاة و دفع الناس الى قبول الحسم مع مراسيم الموت/ العزاء احتفاءً بموت الشهداء ، و بذلك رويدا رويدا سينجح في ربط الموت بالنشوة و الشجاعة في طلب الخلود لصالح البشرية بتمويت البعض على المقاس خدمة للبعض . فسابقا كانت الحروب تفتقر للرونق و فخامة الاحتفاء ، أما حروب المختبر و العلم الحيوي فتتميز بتحويل الصخب إلى صمت أنيق و إلى طقس للنشوة بنيل رضى المتعالي المقدس ( الفردانية المؤدلَجة ) بمنح الروح قربانا له بحثا عن الشهادة المرتجاة و بتبخيس رأسمالي للبشر بلا مراسيم و لا طقوس تناسب قدسية الخلق . و أمام هذه الحروب بالحدود المفتوحة بين الدول و الشعوب ، نجح عزرائيل العلم بعولمة الموت و تحويله إلى توصيفة موحدة لا تحقق التمايز بين الأديان و الأعراق من خلال دمقرطة الموت و تحفيزه مهما عظم حافز الآخرة لأنه يسري على كل بقاع الأرض دون تمييز سوى وفق محددات  » الحقيقة العلمية  » التي هي كل ما يُسمح به من جُرْعات الحقيقة على مقاس الربح . إننا أمام موت جديد عبر حروب جديدة كذلك تعمق الروابط النفسية بين كل الشعوب بلا تصنيفات و تستسهل التطبيع معه من مداخل الإعلام. و إذا كانت الحروب القديمة تعمق الأحقاد و الكراهية و الضغينة ، فإن المختبر و العلم نجحا في تحقيق المصالحة مع القتلة بفضل المساحات الشاسعة من الشك المؤسس على الغموض الذي يزف الموت عريسا تحتفي به الضحايا بطقوس أخرى قد تكون بالزغاريد الداخلية أو بالصمت الأنيق الذي يطبِّع مع السخط أو بالتماهي مع كل الإنزياحات التي يشرعنها الإعلام كواجهة جديدة مباشرة للهيمنة ، و بذلك انتروبولوجيا تتحقق المصالحة مع الموت و إعداد الأنفس لقبول النهايات المؤذنة بالحصول على بطولة الشهادة ، من خلال القدرة على توديع الوفيات بلا مراسيم ؛ و كأننا أمام آليات سيكولوجية تعويضية تخفف عن الأرواح وطأة الدنيا و تعبنا من بؤس المعامل التي خربت جدوة البروليتاريا و جحافل الكادحين بفضل ما ستزخر به الحياة البديلة في حضن المتعالي التيولوجي من زخرف العيش و من رغد نمط الإنتاج لأن الموت يتيح الفرصة للباقين على قيد الحياة في انتظار ما ستجود به توازنات الديموغرافيا في الضفة الأخرى من الوجود المتحكم فيه وفق معادلة الرحيل الممنهج لصالح البقاء الممنهج. وبذلك يكون الثمن الرهيب الذي تقدمه المجتمعات الراهنة الخاضعة تعسفا لعنف المختبر و العلم هو قبول الموت بصمت مريب ، بفضل قدرته على استفزاز الطاقة الدفينة التي توقظ في الإنسان البطولة و الفروسية وبهروب مؤدلج بسلطة المختبر و العلم نحو التأقلم مع أمد الحياة المنهج حسب املاءات الشركات الكبرى للتأمين التي تضمن سيولة العمْلات كما يشاء صندوق النقد الدولي و يريد البنك العالمي و مختلف الفاعلين في سلطة العولمة ، و هو ما أنهك حفريات ميشل فوكو الذي اعتبر كل المؤسسات من سجن و مستشفيات الأمراض النفسية و الجنس و الجنون و الإعلام .. منصات للتحكم و الترويض خدمة لرهانات  » الحقيقة  » على شروط الهيمنة .

   إن الأبحاث المختبرولوجية و  » العلمية  » عميقة جدا بما أهّلها لتحويل الحرب / الموت إلى لحظة انتزاع الصمود الصامت و توديع العالم دون جنازة و بلا طقوس و لا مراسيم وفاء لقدسية الرأسمال الذي نجح في تجديد روح الكولونيالية هذه المرة بحلة أنيقة لا تصنع دمارا و لا تخلق خرابا ، بالأحرى تنتج الصمت وفق هوية النهايات بما يضمن تمديد عمر الهيمنة الليبرالوية القائمة على قواعد الحرب الجديدة حينا بابتزاز الأنظمة و حينا بتحريض الشعوب و أحيانا بتنميط الرغبة في حماية غريزة الحياة بالمرور من جسر تمرين غريزة الموت !!

     تُرى من يملك القدرة في العالم لتحويل صخب الموت إلى صمت منهجي مؤسّس على بروباغوندا المختبر و سلطة العلم ، في اتجاه إعلان الموت عريسا لتطويع الديموغرافيا في عُرس البهرجة الإعلامية و الفلكلرة ( من الفلكلور ) الإستراتيجية لتتكيف مع سياجات السوق و شروطها ، سوى سلطة العلم المختبرولوجي المؤهل لتجديد تمثلات الأفراد و الجماعات حول النهاية ، في انتظار ضبط رحم كل نساء العالم للتحكم في معدل الولادات لصالح توازن الإنتاج و الإستهلاك خدمة للسوق على قاعدة الديموغرافيا  .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *