رنـيــــــــــــن
عبد الرحيم كوديال
بدأ يومه بلمسة سريعة على المنبه يصادر حقه في الرنين و مسح عن عينيه ، يزيل غشاوة الصباح ، و يطرد تسبيحات أحلام فتتت مفاصل أطرافه، في لحظات جمع شمله واستقل نفسه، يحاول موقف الأتوبيس قبل فوات الوقت … في طريقه مر بالخباز يوزع أول زاد لديه فحياه تحية معهودة و استوقفه الخباز ليضيف شيئا لكنه استدرك و أشار عليه بمتابعة المسير … وصل الموقف، و هناك وجد فتاة بدون حقيبة تنتظر الأتوبيس بحماس، وقف بعيدا لتلافي الحديث، و أخرج من جيبه قصة، فتح على الفاصل و طفق يحاور الصفحات في صمت، و تدور عيناه يسيرا وسط السطور …… فتوقفت في لحظة عيناه، ووقفت أذناه تصغيان لحوار الفتاة على الهاتف الذي رن آنفا …
- ألو
- نعم
- لوحده
- كيف
- لا… ليس لدي وقت..
- إن شاء الله
ثم عاد يمسح بعينه الصفحات في عجلة، و مرة مرة يلقي نظرة على وجهة الحافلة، بعدها رن هاتفه من رقم مجهول، و ما لبث أن انقطع … أمال برأسه استغرابا، و تابع فحص القصة من جديد ….. ثم رن الهاتف فلحق فتح الخط هاته المرة، إنه صاحب المعمل يطالبه بوثائق هو الآن في طريقه لأخذ بعضها، فتحدث إليه حديث إجلال و ملأت تعابير الشكر و الثناء مقاطع الكلام، و ما أن أغلق الخط، ووضع الهاتف في الجيب حتى وقف الأتوبيس، فجعل القصة في جيبه الآخر، رمى بنفسه عجولا إلى الدرج، و التفت فإذا بالفتاة تغادر المحطة مقفلة في خطى بطيئة.
« كيف؟ « و تذكر حديثها الآنف
» ألو، نعم … لوحده !؟؟ » ما الذي أوقفها، لتتحدث و تنتظر لتعود ؟؟ عجبا ! «
قاطع تفكيره رجل استأذنه بالجلوس إلى جانبه وباغته بالحديث :
- الحمد لله يا ولدي على نعم الله
- لم يجب
- « إوا سير على الله . »
لم ينبس هو ببنت شفة، ولم يعتذر، كما أنه لم يعر المتحدث أي اهتمام، فقد سافر يجول بخاطره في كيف ؟ و لماذا ؟
لكن الرجل عاد يسأله:
- أيمر الأتوبيس بالعمالة يا بني ؟
- نعم ! ربما !
بعدها رن هاتف الرجل، فتح الخط و لم يتجاوز ثلاث كلمات قالهن على عجل : » صافي صافي غير سير » ، ثم أقفل الخط و تهيأ للنزول في المحطة الموالية … تقدمت نحوه فتاة، ناولته التذكرة، فمد لها الواجب على شروده.
و شرع يثبن ببنانه التذكرة، فجأة قاطعت حديثه لنفسه عجوز سعت تتدحرج نحوه، فنقرت ركبته بمنسأة قديمة تسأله الجلوس في المقعد الآخر لمشقة المرور نحوه.
فتململ إليه و قد كظم غيظه متأففا، لكن العجوز سرعان ما أيقظت حواسه، و ربتت بكلام ساذج عذب على خاصرة فكره المتعالي : » حضي راسك اوليدي راك متبوع … و العين راها حق ! » و اتكأت على المنسأة، و أخذت تغمغم بكلام تلته حشرجة صدر يحكي تصاريف زمن من الأوجاع و الآهات و البؤس. فجأة رن هاتفه، فتح الخط فإذا بصاحب المصنع يطالبه بسجل عدلي . فسرى الدم في عروقه حارا، و امتلأ وجهه، و ضاك غيظا، و قام من مكانه دون أن يدري، و إلتجأ إلى الباب يشرئب إلى المحطة الموالية . و قد انتفخت أوداجه، و صار لزفيره و شهيقه صوتا يملأ فضاءه غادر الأتوبيس، و دلف أول مخدع هاتفي ….. ركب رقم صديقه الحميم، و اتكأ ينتظر فتح الخط …. لكن لم يسمع إلا صوت المجيب الآلي يدعوه لمعاودة الاتصال لاحقا … وضع السماعة بقوة و تسمر في مكانه لحظة ثم أشار على سيارة أجرة مقفلا إلى الحي …
في الطريق جعل يفسر تأويل الأحداث يقرأها من الخلف، و لازمته حسرة شديدة « لقد خانني الخائن ! وحده الذي بحت له بالسر ما كان علي أن أعلمه حتى أخطو داخل المصنع خطوات يقين …. « طعنت من الخلف أمي ! الآن أصدقك !! ليس هناك في الوجود صديق حميم ! «
هو من قالها له، لا أحد غيره، كأني به الآن قابع أمامه يحدثه حديث إماء » إن فلانا سيدي الحاج، له سوابق عدلية و هو إنسان يلهو به الزهو لهوا، و يشتهي العنف كما نشتهي الماء في الرمضاء، و أنا خير منه عندي كذا و كذا ……. « لعنة الله عليك » و أغلق الخط و عاد يقرأ أحداث الصباح :
» الخباز كان يريد أن يخبرني بالقصة فلم أحرص، الفتاة أرسلها اللعين لتتأكد من ذهابي و يخلو له الجو لحديث مستفيض يبث به إلى حاجه، و حتى الرجل الذي جلس بجانبي ثم ما لبث أن غادر الأوتوبيس قال كلاما يوحي بشيء، صدقت العجوز و كذب كل الصغار !!فجأة توقف السائق، ناوله ثمن الرحلة، و أسرع غاضبا نحو بيت صديقه.
هناك على مشارف الزقاق آنس جمعا من الناس يتهامسون، و أصوات نحيب مكتومة، و نساء قبالتهم تشتغلن بإعداد طعام، و صوت شجي بالقرآن ينبعث من عمق البيت يذكر بالبعث و الموت !! و أصحاب آخرون هرعوا إليه يعزونه رحيل صاحبه، فصعق بالخبر، و أطرق مفقوعا، يعض على بنانه و يستسمح صديقه في الغيب، و يلعن ظنونه و يخرف عقله، و انحنت على صفحة خده، دمعة حارقة علها تمسح ظن السوء الذي ودع به حبيبه !!!