العوائق والقطائع: تأملات في المداخل المستباحة

العوائق والقطائع: تأملات في المداخل المستباحة
شارك

د. سعيد ألعنزي تاشفين

من عبث التاريخ، أن ثم إخضاع كل مداخل التحديث الفكري للتمييع الممنهج، بما يحول دون أية إمكانيات للولادة على مشارف التنوير من مخاض اللحظة الهجينة ذات بريق التحديث شكلا، وبعمق نكوصي متزمت. والتنوير هذا نفسه هو الحداثة، كنسق جديد ولد عبر مراحل قاسية من الصراع، ضد سلطة الجهل المقدس من منطلقات تحرير العقل المعتقل في زنزانة الكهنوت، الذين وظفوا السماء لبلقنة الأرض بما يخدم رهانات السخرة الفكرية و يسهل شرعنة التحكم الفيودالي. وأروبا، بالضرورة المنهجية ، كانت أنموذجا فريدا في دينامية اشتغال العقل ضد اللاعقل، الذي ظل مسنودا بماكينة دعائية خطيرة بإيعاز مباشر من الإكليروس والحكم المطلق لقرون طوال. ولذلك نجد الحداثة هي نفسها التنوير الذي جعل كانط يطارحها من مدخل سؤال ما معنى الأنوار؛ وهو سؤال منهجي مؤسِّس لكل ما جاء بعده من طفرة هائلة، في مضمار الحداثة الفكرية منذ رني ديكارت، والسياسية مع رواد الأنوار بفرنسا وإنجلترا. ونعتبر أن مداخل تقدم أروبا، بصرف النظر عن أهمية التحول الاقتصادي كطفرة نوعية من الفيودالي إلى الميركانتيلي، منذ لحظة عبور بحر الظلمات نحو جغرافيات الأنكا والأزتيك و المايا للبحث عن المعادن النفيسة التي شكلت أساس ميلاد الرأسمالية التجارية، كانت فكرية صرفة كصورة ثقافية جادة ضد أنماط التفكير القروسطية، حتى أن حرب التنوير تشكلت من داخل الثورة الفكرية ضد ظلمات العصر الوسيط بنفحته التيوقراطية الجامدة، كثورة ثقافية مركبة هائلة مسائلة بقوة، ليس المقدس التيولوجي وراهنية التسلط الكنسي فحسب، بل الميتافيزيقا في عموميتها ومختلف التحريفات التي تعرض لها الإيمان في صلب معركة السخرة الفيودالية التي وظفت السماء للتحكم في الأرض. وعليه فالتنوير كان ثورة ثقافية بما جعل الرهان كله حول تحرير العقل من كل أشكال التسلط السياسي ( لعبة الإخضاع ) والديني ( تمييع علاقة الأرض بالسماء ) والحضاري ( منع عقلنة العمران البشري ) والاقتصادي قبل كل هذا من خلال محاصرة انبلاج الرأسمال. ونجد كانط كان جريئا جدا في معرض اجابته عن سؤال الأنوار، في سياق دقيق اتسم بتشنج علاقة الفكر بالسلطة تحت عنوان فلول محاكم التفتيش التي قتلت حرقا جيوردانو برونو وحاكمت العظماء بحثا عن تثبيت دعائم الجهل المقدس، بربطه التنوير بالقدرة على امتلاك الشجاعة في استعمال العقل وفي نقد المؤسسات. إن أروبا، إذن وفق دقة السياق، كانت مرجعا غير قابل للتجاوز في التقعيد لولادة الحداثة الفكرية كنتيجة بديهية لسؤال التنوير المنهجي. ترى، على ضوء سؤال معنى الأنوار، والسؤال مختبر الشعوب، هل نجحنا مغربيا، رغم بريق ما راكمناه من حداثة شكلية، في فهم سؤال ما معنى التحكم في مضمار فرملة معانقة التنوير. ونحن نحاول أن نجد نقيضا للتنوير نصادف توصيف التحكم / التسلط أفضل لفظ معبر عن ماهية المفهوم. فالتحكم يتموقع على نقيض التنوير، لذلك نجد أن من المداخل المستباحة هنا، شرعنة ممارسة التحكم على كل فكر يريد أن ينفلت من طقوس الجماعة المتعسفة؛ وما الجماعة إلا كل البنيات التقليدانية المنتجة لوهم الإجماع المعادي لأية فرص للانفلات. ولا يجب ربط التحكم بحقل السياسة فقط، بالأحرى فالتحكم في دلالاته أنتروبولوجيا وسوسيولوجيا هو مختلف أشكال القهر الذي تمارسه الجماعة على الفرد، إذ لا يستقيم ، وفق نظيمة قهرية الظاهرة الاجتماعية كما أكد إيمل دوركهايم ، لأي فرد أن ينفلت من قيود النسق الاجتماعي، وإلا أصبح مباشرة من  » حق  » الجماعة إبداع مختلف أشكال العنف الرمزي لتلطيخه بحجة الكفر بالمتفق عليه ومناشدة التحرر والانعتاق . إن الفرد الحر المتحرر، من وجهة نظر العنف الرمزي ، هو  » السكايري  » و  » الشاذ جنسيا  » و » المشبوه  » و  » المعقد  » و » المنبوذ  » و » الكافر « .. و غيرها من التوصيفات التي تعتمد كقذائف الهون للقتل المعنوي للمختلف وشرعنة عنف الجماعة التي تؤجر نفسيا ضمن شروط الجماعة المستبدة والقاهرة. و الأنكى توظيف المقدس الديني لحبس أنفاس التحرر الفردي تحت سلطة  » ما اجتمعت أمتي على ضلل  » ؛ و مفهوم الأمة هنا غامض جدا سوسيولولوجيا ، رغم تسطيح المعنى فقهيا عن قصد بما كان يزكي التأويل الأشعري للهوية العقائدية، وكذلك بالنسبة لمفهوم الضلال الذي لا يجب أن يقاس بالمحرم الديني فقط، لأن القياس بأساس ديني تضبطه نمطية التأويلات الفقهية الباطرياركية التقليدانية التي أنتجها نمط الإنتاج الاقتصادي منذ العصور الأولى؛ حتى أن عبارة مثل  » ساعدوا على قضاء حوائجكم بالكتمان  » تشكل ممرا يتيح العبور من المنع و الكبح نحو الحرية المشروطة لشرعنة الأوزار تحت دواعي الكتمان بعيدا عن بطش الجماعة. ونزعم أن المدخل الأول المستباح في سياقات الإدراك الفردي للحداثة هو الحرية الفكرية التي وضعت لها سياجات دوغمائية تحرم اجتماعيا على الأفراد التمرد الواعي على شروط الجماعة و هنا تصبح السماء بقدرة قادر مشرعنة لتناقضات الأرض التي تختزن شتى الأعطاب، خدمة لوهم الوحدة التي تميز قهرا الجماعة المحاصر بالكليشيهات وبالمحددات الملازمة للسلوكات على قياس « المتوافق عليه  » بعنف مشروع ضد كل مختلف. ونعتقد أن محاصرة الفرد وإتاحة الفرصة على عواهنها للجماعة لممارسة التحكم يشكل المرض المزمن الأول في سياقات الحداثة الموبوءة في مهدها منذ ميلاد المذاهب الفقهية الأربعة ضمن نسقية القرن الرابع الهجري الذي جعل الفقه يسيطر على السياسة وبالتالي ينتج سلطة جماعية معادية للحرية وللانعتاق .

   إن الفرد الحر المتحرر يشكل فلسفيا أساس الفعل المدني كما عرفته أروبا منذ الزمن الحديث لحظة انبثاق الوعي بالذات المفكرة كما قعد لها ديكارت من خلال الكوجيطو كذات مفكرة حرة وشجاعة ومسؤولة ، وديكارت لم يؤسس للتحرر الفكري من منطلق  » نحن نفكر  » على صيغة الجمع كشرط للوجود، لكونه يعلم يقينا أن عصور الانحطاط أوروبيا كانت تحت عنوان القهر الجمعي للفرد، لذلك كان رهان صاحب  » مقال في المنهج  » أن يتحرر الفرد فكريا كمنطلق لوعي مدني جماعي بما يضمن عقلنة الوجود البشري وهو ما جعله يقول أنا أفكر وليس نحن نفكر لكون الأصل في الفكر هو الذات الحرة المتحررة. ومنذ ديكارت بدأت تتشكل روح مدنية جديدة تجعل التفكير العقلاني في مشاكل الأرض ضرورة منهجية للحسم مع التسلط القروسطي البئيس، إنها الإرهاصات الأولى للحداثة كما فهمها ديكارت. لذلك بدأت فكرة المدنية فلسفيا من الفرد العاقل المتحرر، على أنقاض الجماعة التي كانت محور القهر التيوقراطي زمن العصر الوسيط الفيودالي. والمدنية منذ الزمن المؤسس ديكارتيا، نحو رواد الإصلاح الديني مع كالفان وانجليكان ومع مارثن لوثر تحديدا ( الفرد بروتستانتيا ليس هو الفرد كاثوليكيا )، في ذات سياق النهضة بمدن فلورنسا والبندقية وجنوة كمجالات فكرية سمحت لانتشار الفكر الجديد، ومن خلال الأطروحة الأولى في مدح الجنون مع إيرازم لحظة ميلاد الحركة الإنسية، ثم مع رواد الأنوار بفرنسا وإنجلترا ؛ كانت فلسفيا تقوم على لبنة الفرد المتحرر من قيود وطقوس الجماعة الممتدة منذ اخضاع الميتافيزيقا لتوازنات الأرض بتحريف الأدوار بما يخدم رهانات التحكم المناقض للتنوير. بمعنى أن الفرد الحر هو المدخل الأول للحداثة، ليس بالمعنى الأيديولوجي القائم على خلفيات ضيقة كما ذهب دستون دوتراسي أولا، ثم رواد المدرسة الليبرالية فيما بعد، ولكن الفرد كوحدة رمزية لها قدسية وجودية كفيلة بتشكيل الجماعة المنفلتة عن الوهم الجمعي الذي يشرعن الاستعباد والسخرة بمقاييس المتفق عليه من لدن الجماعة. والمدنية ليست سوى الإيمان بالفرد كذات مفكرة حرة واعية ومسؤولة، إذ مع ديكارت نحو كانط؛ تشكلت الإرهاصات الأولى للفرد المدني ( المواطن )، على نقيض العبد الخاضع ( المؤمن )، القادر على التفكير بحرية وبمسؤولية دون قبول الحشو وفق قوالب التفكير التي يخضع لها المزاج الجمعي .

    ومغربيا؛ بدل أن تتشكل الحداثة فكريا من خلال الإيمان بالفرد الحر والمتحرر، نجد أن الجماعة شكلت منطلقا للدفاع الشرعي عن كل المخاطر المحدقة، حتى أن الوضع سياسيا جعل حزب الاستقلال في بدايته نظيمة أمة مغربية موحدة ضد الاحتلال ضمن الوحدة العربية كاستبداد معياري عام، وهو ما جعل أطروحة الفاعل الواحد و الوحيد أساس كل التشكيلات في زمن الاحتباس السياسي ضد حزب الشورى والاستقلال أولا، ثم ضد الحركة الشعبية فيما بعد كأولى المحاولات لتقويض جموح الفهم الواحد والوحيد للدولة، لدرجة أن الحصار كان ضروريا للحسم مع فكرة التعدد والتنوع بنفحة يعقوبية عند الفاعل السياسي عموما، رغم أننا نتفهم دواعي التخوف من تحول الحرية إلى فوضى، ولدى الفاعل الحزبي تحديدا، والمعادي لأية انفلاتات على حرمة الجماعة غير القابلة للتجاوز. لذلك ثم تأسيس فكرة المدنية منحرفة منذ البدايات الأولى بمقياس الوعي الفلسفي بتحرر الفرد. وإلى الأن يكفي أن يصبح الفرد متحررا على نمطيات الجماعة ليصنف في خانة كل الأوصاف المشينة إيذانا بالتصفية الرمزية له والتنحية من لدن جحافل الدهماء المشكلة لسلطة الجمهور التي يحركها مزاج جمعي نمطي لإيقاف كل نزعة تحررية لصالح الذات المستقلة عن الذوات. ولقد كان غوستاف لوبون دقيقا جدا في تفكيك تسلط الجمهور وفق محددات سيكولوجية الجماهير التي تعدم كل فرص العقل المسؤول والمتحرر . وإذا كان الوضع سياسيا مفلس من وجهة نظر التنوير ومحدداته الفكرية، فإن الأنثروبولوجيا الانقسامية تفيد أن أنساق الجماعات لا تسمح للأفراد بالتحرر، حتى أن منطق التراتبية والتحالف العضوي ثم الآلي يشكل آلية دفاعية ضد الغير المختلف. وهذا الغير ليس سوى ذات أخرى مختلفة عن الجماعة الباحثة عن الحظوة من خلال احتكار وهمي للبطولة على خلاف الغير الذي لا يليق به سوى التصفية من مجال المبارزة الرمزية. و يجوز العودة الى دراسات السوسيولوجيا الكولونيالية عن القبيلة للتأكد من أن خطابات الديموقراطية ومقاربة النوع تنعدم كليا سوى عبر التماهي مع نمطية الباطريارك والنفود وشروط القبيلة ومحددات الحظوة على قاعدة المال و الفحولة و احتكار الأرض و الماء . إن فكرة المدنية نتيجة لما سلف مخصية عندنا تحت تسلط كل أشكال امتداد السلطة منذ ثنائيات بلاد المخزن / بلاد السيبة ، والعرف / الشريعة، والأمازيغ / العرب ، والسهل / الجبل .. بمعنى أن روح الحضور و التجلي كانت انقسامية حتى على مستوى سير الثقافة الشعبية، رغم ما يقال ايديولوجيا من عبارات ديموقراطية القبيلة وهو استنتاج محفوف بالمخاطر على ضوء اسئلة أنثروبولوجي مركبة متعددة .

      ونعتبر نتيجة أن فكرة المدنية تجد مصداقيتها عند الفرد كذات مفكرة و مستقلة ، لا بالمعنى الأيديولوجي الذي تسوق له الرأسمالية منذ ما قبل دولة الرفاه قبل مجيء كينز ، بل بالمعنى الفلسفي الذي يجعل الفرد مناط الحضارة و التاريخ كشرط موضوعي نظري للحديث عن زمن ما بعد الحداثة. ولكل ذلك منذ زمن طويل ظل الفرد محاصرا بقوة و عنف حتى لا ينفلت عن قيود الجماعة، وما الدولة بالمعنى اليعقوبي، والقبيلة بالمعنى الانقسامي ، والجماعة بالمعنى الفقهي، والعائلة بالمعنى الاجتماعي، والأب بالمعنى الباطرياركي؛ سوى تجليات مباشرة للبنيات التقليدانية المعادية للفرد كأساس للتحول ترابيا من خلال مرونة توظيف الفضاء العمومي لتكريس الاختلاف ولتجويد العيش على المجال نفسه عبر الانتقال من الفرد الخاضع إلى المواطن الحر .

      ويبدو، بناء على ما سلف، أن أول  القلاع المستباحة في سياق التحديث الفكري من أجل المدنية هو الفرد الذي يشكل نواة التغيير بالمعنى الفلسفي العام الذي وضعه ديكارت ودعمه كانط، قبل أن  يحطمه فقهاء السياسة ، من داخل التأويل اليعقوبي للمشترك، و زعماء القبلية ، وفحول العائلية و العشائرية و الأسرة الممتدة ضدا على الفرد / المواطن. وعليه فالتحكم أنتروبولوجيا وسوسيولوجيا يتشكل على نقيض التنوير الكانطي للوجود والتاريخ وبالتالي على نقيض المواطنة.

     فإلى متى سنظل حبييسي القراءات القهرية للوحدة على شظايا الفرد الممزق بين مخالب الإرتكاسية والنكوصية من داخل بنيات النسق اليعقوبي .

    ويجوز فكريا أن نتساءل ؛ ما مداخل التنوير حاليا لتفادي تداعيات الرجعية التقليدية ( وهم ما اجتمعت أمتي على ضلل ) والرجعية  » الحداثية  » التي تحدث الشكل للحفاظ على مضامين الرجعية والإرتكاسية بمضامين السرديات الكبرى سياسيا و ثقافيا و رمزيا .

    و في انتظار ولادة العقل كالفينق من رماد ابن رشد وابن باجة وديكارت  سبينوزا وكانط ..، حري تنظيف المخيال العام بمكنسة الجينيالوجيا وبمطرقة آركيولوجيا المعرفة، بدل تحديث الأصوليات باسم اليساروية اللاعقلانية والدينية الفقهية المعادية لروح التاريخ والهوياتية المؤسسة على وهم التفوق والباطرياركية المنافية لفكرة المساواة أمام المواطنة. وعليه نحتاج  فعلا، صفوة القول، إلى رجة ثقافية على منوال النقد المركب للماضي وللحاضر انتصارا للفرد المعتقل في كنف الجماعة؛ ولعمري هذا هو المدخل المنهجي لمعانقة قيمة المواطنة مفكرة أساس ضمن بوقفة الحداثة المنشودة .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *