سؤال النخب ومأزق التجلي
د. سعيد ألعنزي تاشفين
سؤال الفرز الطبقي في منطلقاته ومحدداته سؤال مأزقي، لأن الحصول على الحظوة مهما تكن الكفاءة لا يكفي إلا بالحصول على » الرضى » . و حيث إن المدرسة ، كمصعد لتيسيير مهمة الفرز الطبقي ، لم تعد أداة منهجية لتعبيد السير و الجولان عموديا ، تحت ضغط سلعنة التعليم ، لدرجة أن كثيرا من النخب من ولاد الشعب ، الذين تحرروا من براثن الفقر بفضل المدرسة العمومية ، أصبحوا يدرسون أولادهم بمدارس » الزهر و الهمزة » ، على نقيض مدارس » بوزبال » التي تحتضن نخب أخرى من ولاد الشعب الذين أصبحوا معلمين و أساتذة ، ثم خلسة يناهضون كل فرص الانعتاق أمام المتعلمين المستضعفين من بني جلدتهم لدرجة أن هذا الصنف من المدرسين لا يفقهون شيئا في صناعة الأمل و الأعمال مع ضحايا التاريخ من ولاد الشعب الذين يتم التعامل معهم بمنطق مقياسي قوامه » شحال جاب ف لماط ؟ شحال جاب ف لفرونسي ؟ » ، و هذه النمطية أكبر مؤشر على هيمنة البؤس المعرفي و الزلط التربوي الذي يجعل الذكاء فقط هو الحصول على ميزة مؤهلة لولوج مدارس ذات الاستقبال المحدود، ومن نتائج هكذا فهم اوليغارشي للذكاء إنتاج نخب تتقن اللغات و الرياضيات و من دون أي مضمون حضاري و فكري . و التوجه العام المخدوم هو احتقار الفلسفة و التاريخ والرواية .. و كل المواد المعرفية التي تدعم الخيال و التمرد المرن على النمطيات ، لصالح اعتبار العلوم الحقة وحدها مؤشرات على التمكن والتميز . إننا هما أمام تأويل تقنوي للذكاء يسيء للتراكم الحضاري عن قصد و ينتج نخبا شكلانية بلا أي مضمون قيمي – وجداني – فكري – حضاري .
النخب لا تخلو من نوع جديد » ذكي » بمنطق » لقوالب » ، و ضمنها نموذج متواجد بكثرة يتميز بالنقد القوي شكلا و توجيه ضربات صاعقة للمؤسسات بلغة غير موالية ، لكنه في العمق و تحت جنح الصفقات صنف انتهازي لا يصرّف موقفا إلا بالسيولة و بحجة لكل عمل أجرة . وهذا النوع يعتمد غالبا مرادفات نقدية تدغدغ عواطف الجمهور و تبوؤه مكانة ضمن » الثوار » الذين يرفضون آليات اشتغال المؤسسات ، لكنه في ذات الوقت مفكر مرايقي يحاجج ب » الثورة » من أجل ضمان حقه في الهمزة لا أقل و لا أكثر .
صنف أخر من النخب أسميه ب مثقفي » الفراش والناموسية والدوش » ، وهذا النوع لا يهمه ارتفاع الأسعار و لا استفزازات الجزائر و لا تأخر الأمطار و لا تهميش القرى ، بالأحرى يقضي الليل في كنف الرشيقات على شرف مشروبات الأحمر والصفراء ، وينام إلى ما بعد الظهر، وعندما يستيقظ يكتب تدوينات أو مناشير ضد الظلامية و النكوصية و الرجعية ، فيصبح مناضلا حقوقيا بعجالة يدافع عن الحق في الجنس و في الإفطار العلني و في حماية الكونكيبيناج . هذ الصنف تجده صاحب رصيد بنكي مملوء ، و يمتطي سيارة فارهة ، ويؤثث ثلاجته بالراح و الجعة ، و لا يخالط جمهور » بوزبال » ، ثم يعتبر نفسه مفكرا بدرجة إبن رشد أو فوكو .
صنف أخر من النخب نجده يغار على الأمة و يدعو بناتها إلى التزام الحجاب ، و يقص الشنب و يعفو عن اللحية ، ثم يحضر مجالس » العلم » و الذكر ، لكنه لا يبالي بالأرامل و اليتامى و لا يسجل حضورا في أي أزمة اجتماعية ، كما لا يعرف من تاريخ الأمة إلا عثمانا وموسى الأشعري ، أما أبا ذر الغفاري فلا يشكل نموذجا حيا بالنسبة له . هذا الصنف لا يغار على الثغور المغربية السليبة ، و لا يغار على القرى التي تفتقر إلى الماء الصالح للشرب ، ولا يغار على مدارس بلا أسوار لكنه يغار جدا إذا سقط الحجاب عن رؤوس طفلات بمدارس الإعدادي هذا الصنف لا يزهد في الدنيا ولا يعرف غير تكديس الأرصدة ثم في نفس الوقت يحاجج في مجالس الذكر و التقوى ، و تجده يعجز حتى عن توزيع الابتسامة برا ، أما الانخراط لصالح مشاكل المستضعفين فتلك قصة أخرى يجيب عنها ب » وبالقلب فذلك أضعف الإيمان » .
صنف آخر من النخب ينتقد » المخزن » و ينتقد الدولة و ينشد في كل خرجاته دولة مثل السويد والدانمارك، ثم بمجرد أن تختلف مع هذا النوع يصرف كل أحقاده في برهة، ثم ينشر كل المشترك كما يريد، ويذهب به حقده إلى مستوى النبش في أرشيف الأموات لتلقين خصومه دروسا في الانتقام . و هذا الصنف يتلذذ بالحديث عن الغير بكل أساليب المعيور والسب والشتم لمجرد اختلاف في وجهة نظر، ويمارس الدسائس والمؤامرات، ولا يخجل في التشدق بالنضال والصمود.
وصنف أخر من النخب يدافع عن الدولة و عن المؤسسات بصدق ونية ، ثم يؤمن بالمشترك و ينتصر للوطن ، و يساهم بإيجابية .. و هذا النموذج هو الذي يذهب ضحية في كل الحالات ؛ و أمامه تقتسم الكعكة بين مناضلي الشفوي و بياعة الليل ، ببساطة لأن الأغلبية تنتمي إلى الأصناف الأولى ، و كفى بالحب وسيلة لنيل العقاب ..
انتهى الكلام ..