الموت عند البعض فاجعة، ورحمة عند النفوس القانعة!!
بقلم سدي علي ماء العينين
قبل خمسة عشر سنة كنت بعمرة رمضان، كانت تلك اول واخر مرة في حياتي يدعوني فيها الامام عبر الميكروفون لصلاة الجنازة على عدد من الموتى يتجاوز العشرين دفعة واحدة ،
في ذلك العام امضيت أكثر من شهر بمكة المكرمة ، و ما كان يثير انتباهي اننا لا تمضي صلاة الا و سمعنا الامام يدعونا لصلاة الجنازة حتى في ليالي رمضان أثناء التراويح…
منذ ذلك الوقت خلقت مصالحة نفسية مع الموت، وترسخت عندي قناعة أن أرقى أشكال الرحمة الربانية هي الموت، والانتقال من هذا العالم بكل تقلباته لتعانق عوالم الرحمان…
و في محيطي اليومي ، هناك علاقات متشابكة ودوائر معارف كثيرة ، منها حلقة العمل حيث يعمل أزيد من ألف ونصف الالف موظف وعامل، و ومنها حلقة القبيلة المتعددة الفروع والمنتشرة في مختلف البقاع داخليا وخارجيا، ومنها حلقة الحزب حيث المناضلين والمنخرطين موزعين عبر ربوع الوطن والمهجر.منها حلقة مسقط رأسي حيث معارف الطفولة و الاهل ….
لذلك اجدني كل صباح مع خبر وفاة احد معارفي من المنتسبين إلى هذه الحلقات، وتتعدد درجة البعد والقرب من المتوفي حسب كل حلقة …
في العمل ، اجدني مصدوما من خبر وفاة موظفين زملاء في العمل فرقت بيننا فضاءات الاشتغال ولم نعد نرى بعضنا حتى ياتيك خبر الوفاة كالصاعقة، و في حالات اخرى يصل خبر وفاة موظف لا تعرفه، وتستغرب كيف بعد ربع قرن من العمل لم تتح لك فرصة اللقاء به و التعرف عليه ….
في القبيلة و العائلة، تلتقي مع أبناء عمومتك في المناسبات بسبب تباعد مسافات الاستقرار والانتشار، وفجأة يأتيك خبر وفاة قريب كنت تجالسه بالأمس بمائدة عشاء في مناسبة، و لم تكن تعي وانك تودعه أنه الوداع الاخير…
في الحزب ، تفرقت السبل بالأسرة اتحادية، شردتها التفرقة يوم نخر شرايينها المفسدون و الانتهازيون، وذهب كل إلى سبيله، وفجأة ينشر أحدهم خبرا عن وفاة فلان ، قد لا يعرفه جيل المنخرطين، لكنك في لحظة تستحضر تاريخه و نضاله و مكانته زمن كان للحزب مكانة، وتستغرب كيف يرحل غريبا، و آخر يأتيه الاتحاديون من كل صوب لوداعه، فقد فرقت بينهم الدروب ويوحدهم درب المقبرة للوداع الاخير…
أما حلقة مسقط الرأس، فهي حكاية سقوط أوراق من دفتر الذكريات، فكلما بلغك خبر وفاة احدهم، تقلب دفتر ذكرياتك لتستحضر الايام الحلوة التي جمعتكم…..
هكذا أصبح خبر الموت يصاحبني في صبحي ومسائي، وانام و لا أعرف عن أي خبر وفاة سأصبح، فالاحبة ولله الحمد كثر ، والموت علينا حق ، وكما اعدهم اليوم، سأكون أيضا رقما عند أحد معارفي يوم يأتي دوري.
يوم فقدت والدتي ووالدي ، وادركت حجم مسؤولية تدبير وقائع ما بعد الوفاة ، و تعلمت كيف تجف عيوني من البكاء إلى حين، وكيف يجب أن تمارس القمع الجميل اتجاه روحك المكسورة بالفقد والحرمان والصدمة والفاجعة، حتى تتفرغ للدفن.
وبعدها أصبحت اتلقى خبر الوفاة بالشكر لله والحمد له حمدا طيبا مباركا، فالميت يرحل ليستريح من مرض ألم به، أو معاناة مع ظروف محيطة به ، يرحل لحكمة مهما عصرت دماغك لن تدرك معانيها، تمتد يد الله لتقطف لله زهرة من حقوله يريدها بجواره، وتأتي انت لتبكي على فراقها لأنك تريدها بقربك. أنانية بشرية….
قبل أيام، خبر عاجل وعابر كتب هنا وهناك عن غرق عشر صيادة بعمق المحيط في عز رمضان، وكلهم من شباب اداوتنان،
اداوتنان مثلي تصالحت مع الموت بالغرق، فبكل بيت بحار ، في كل بيت صورة شاب ركب الموج للصيد ولم يعد ، الناس هناك ألفوا أن يفقدوا عزيزا غرقا، فمهنة الصيد دندنهم و الموت جزء من المهنة،
عندما تاتي الجارة لتعزي الام في فقد ابنها تصبرها بذكر صبر فلانة وفلانة التي لم تفقد فقط ابنها ولكن فقدت الزوج والاخ والابن دفعة واحدة… هكذا يصبح الموت زائرا مألوفا بمنطقة اداوتنان،
و هي مناسبة لاتقدم بأحر التعازي لكل اأسرالتي فقدت عزيزا لديها في غرق سفينة ادومغار.
والبارحة صديق عزيز ارسل إبنه للدراسة باوكرانيا، و حلت الحرب هناك ومات متاثرا بجروحه، المشهد قد يبدو صادما، لكن لو تاملت الامر جيدا لادركت أن طفلك حتى لو ارسلته إلى المدرسة بحيك قرب بيتك لا تضمن أنه سيعود، فالموت له فلسفة يصعب ادراكها، انه يأتي بلا موعد ، غادر ، مفاجئ، صادم ،،،،
ويزداد الما لانه ليس مقرونا بسن ولا بجنس ولا بوضع ولا بوقت… انه في كل مكان وفي كل الازمان،
ومن يقل لماذا أنا وليس غيري ،فقد وضع اول رجل في طريق الشرك بالله،
كل عزيز عليك رحل، فقد رحل بقرار الاهي، و ذهب عنك اليه، فهو من وهبه لك واعاده اليه، فلا داعي أن تتشبت بما ليس لك ،،، فكلنا منه واليه، وكلنا له، ،،
رحم الله موتانا أجمعين ، ووهبنا الله من نعمة صبره ما نصبر به على فراق كل عزيز ، و الهمنا حسن البصيرة أن نعتبر من الموت قبل أن نخاف منه، و أن نحمد الله قبل أن نلعن القدر ، وأن نتعلم الاستسلام بين يدي الله و نحن نرى ارواحنا عزيزة ترحل اليه لتترك فينا الالم والفراق و الشوق.
وأعود مرة أخرى لاقول لكم : لا تستمعوا لمن يرهبونكم بجهنم و بالنار، وعذاب القبر، عيشوا حياتكم فيما يرضي الله كما انتم تعرفون الله، وكما الله وهبكم عقلا لتعرفوه، جهنم للمشركين والجنة لنا ، ولنا في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم علامة وختم .
تصالحوا مع الموت، ليس بأن تقسى قلوبكم ، ولكن بأن تحبوا الخير في الحياة ، وتعتبروا كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام، فاكرموا موتاكم بدفنهم والدعاء لهم و اتباع وصاياهم ان كانوا من الصالحين.. فهل تعتبرون؟