من أعماق التاريخ: محاولة فهم صيرورة الدولة المغربية

من أعماق التاريخ: محاولة فهم صيرورة الدولة المغربية
شارك

علال بنور

للحديث عن موضوع سيرورة الدولة بالمغرب، يطرح اختلافات في المواقف والرؤى، الناتجة عن اختلاف المرجعات، منها المرجعية الوطنية والمرجعية الاجتماعية في الكتابة التاريخية، طبعا لن ندخل في هذا الجدل، بل سنتلمس الطريق في تحديد صيرورة السلطة بالمغرب ، وأعتقد أنه من الضروري ونظرا لتعقد الموضوع، يجب تأطيره في الزمان والمكان، مع تحديد مكوناته،  فمن حيت المكان، نقصد بالمغرب جغرافيا، المجال الممتد من افريقية (تونس  حاليا) شرقا الى ساحل المحيط الاطلسي غربا، لكن هناك بعض المؤرخين من يجعلون هذا المجال، يمتد الى الاندلس  السودان (السنغال و مالي حاليا)، أما من حيت الزمان، يمكن ضبطه كذلك ما بين  تأسيس  الممالك الامازيغية في نوميديا و موريتانيا بشمال افريقيا –  حيث عرف التأسيس عدة مراحل منها :

  • منذ 202 ق.م تأسيس مملكة نوميديا على يد زعيمها ماسينيسا.
  • منذ108 ق.م تأسست مملكة موريتانيا على يد بوخوس الأول.
  • منذ25 ق.م تم توحيد مملكتي نوميديا وموريتانيا على يد جوبا الثاني.
  • وفي سنة 40 م، تعرض المغرب للاحتلال الروماني.
  • ومنذ القرن 7 م ظهور مؤسسة الولاة مع الأمويين ثم العباسيين مع تشكل الإمارات من أصول امازيغية.

إلى ظهور الدولة العصبية القبلية التي قامت على القوة، غير أن هناك اختلاف بين المؤرخين لم يحسم بعد، هل محطة الحكم العصبي القبلي من تاريخ المغرب نسميها دولة، أم بها مرحلتان؟ مرحلة الإمارة حيث كانت جغرافية المغرب مقطعة إلى إمارات ثم مرحلة الدولة، على كل حال، يمكن اعتبارهما كيانين مركبين من مستويين سياسي وايديولوجي، فبالنسبة للسياسي يتضمن مؤسسات الردع كالجيش والقضاء والحسبة والشرطة والسجن، إما المستوى الايديولوجي يمر عبر قناة الدين بما فيه الفقيه والمتصوف والزاوية، تتضمن أساليب الاقناع والترهيب والخضوع والطاعة،  كل ذلك لخلق الولاء، للسياسي عبر القبيلة بمفهوم « الجماعة » والمسجد والزاوية والدين.

عرف المغرب موجات استعمارية اجتاحت المنطقة قبل   الفتح /الغزو الاسلامي ، و بالخصوص الاحتلال الروماني  الذي تسبب في ايقاف سيرورة تشكل كيان دولة ، فأدى إلى إعادة بناء الكيانات القبلية، التي ستلعب دورا مزدوجا بعد الفتح/الغزو  الاسلامي، حيث ساهمت في بناء الدولة من جهة و العمل على هدمها من جهة ثانية؛ غير أن انتشار الإسلام في المنطقة و توسع قاعدة النشاط التجاري ساهما معا، في تراجع الدور الوظيفي و الولائي للقبيلة بالمعنى العرقي و الاثني  مع نهاية القرن 14 م ليحل محله الولاء للزوايا، التي ستتعدد وظائفها فيما بعد .

إن المتتبع للتطور التاريخي لشمال افريقيا منذ القرن 10 ق.م إلى بداية  فتح /غزو المد الاسلامي في نهاية القرن 7 م، يلاحظ إن المنطقة شهدت تحولات، التي يمكن التمييز داخلها بين مرحلة، امتدت من القرن 10 ق.م إلى القرن 5 ق.م؛ تميزت بانتقال سكان المغرب من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار، حيث مارس السكان الفلاحة وطوروا هندسة السقي، هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى الاجتماعي، فقد بدأت سيرورة تفكك التنظيمات القبلية كمرحلة أولى لفرز اجتماعي،  وهو شرط أساسي في بناء الكيان السياسي؛ أما المرحلة الثانية ، امتدت من القرن 5 ق.م الى القرن 5 م، وتميزت بظهور إمارات، لكن نتساءل عن العوامل التي تحكمت في مسار التطور التاريخي للمنطقة، التي تحول فيها السكان من الترحال إلى الاستقرار ثم إلى تشكيل قبائل فتكوين  إمارات ؟ ربما الجواب يكمن في أن المنطقة تعرضت لعدة موجات من الاحتلال، الذي ابتدأ مع الفينيقيين ثم القرطاجيين الذين انحصر نفوذهم السياسي في الشمال الشرقي من المغرب، مع تحكمهم في المراكز التجارية الساحلية والتلاقح الحضاري بين الأمازيغ والمحتل على مستوى الثقافة، المتمثلة في بعض العادات واللغة والدين منذ القرن 4 ق.م.

غير أن الاستعمار الأكثر تأثيرا  على تاريخ المنطقة، هو الاستعمار الروماني الذي ارتبطت توسعاته  في صقلية وكل شمال افريقيا بتناقضاته الداخلية، المتمثلة في الصراع بين النبلاء والعامة، فمتل الاحتلال صمام الأمان للنظام العبودي الروماني ؛ غير أن التوسع الروماني في المغرب أدى إلى الاصطدام بالقرطاجيين خلال القرن 3 ق.م ، وفي هذا السياق، كانت محاولة الملك  ماسينيسا التوحيدية، حيث عمل على بناء الدولة عن طريق اتجاه المجتمع نحو التوحيد مستفيدا من النشاط التجاري النوميدي مع البحر الابيض المتوسط والصراع السياسي بين روما و قرطاج ، وبالفعل تمكن من توحيد شعوب نوميديا شرقا وغربا من  202 ق.م الى 148 ق.م، فظهرت نواة للدولة، والتي نلاحظها في وجود كلمة « أكليد » أي ملك، إضافة إلى النهضة الاقتصادية والعمرانية ، حيث برزت الملكية الخاصة والزراعة المسقية والتجارة وتفكك البنية القبلية كسلطة سياسة.

لقد لعب انتقال الرحل من الشفوي إلى الكتابة بابتداع تيفناغ إلى الاتحاد حول لغة موحدة  ولا شك أن تعلمها كان يقتضي الاستقرار أكثر فأكثر وتنافس النبلاء للاقتراب من مراكز السلطة. لكن بعد هزيمة قرطاج 147 ق.م على يد الرومان وحليفها الملك الامازيغي ماسينيسا، تحول هذا التحالف إلى عداء، انتهى باحتلال الرومان للمغرب وإجهاض محاولة التوحيد، وبناء مؤسسة الدولة من طرف ماسينيسا، رغم المقاومة الأمازيغية للحد من نفوذ الرومان، التي استمرت حوالي قرن من الزمان منذ40 م، فكان من قادة الجيش الامازيغي: تاكفاريناس ودونا توس ويديمون. لكنها فشلت نظرا لعدم التكافؤ في التطور التاريخي بين نظام روما ذي جيش قوي ونظام سياسي اجتماعي محكم، أمام نظام قبلي أمازيغي هش، وهكذا هدم الاستعمار الروماني حركة اجتماعية تحمل بذور دولة، لكنهم لم يستطيعوا طمس الثقافة والهوية الامازيغية.

 مع الاحتلال الروماني للمغرب، نتساءل عن آثار هذا الاحتلال على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؟

*على المستوى الاقتصادي: تجميد قوى الانتاج بفرض زراعة الحبوب دون غيرها، قصد تلبية حاجيات المركز الشيء الذي أدى إلى القضاء على تقنيات زراعة الغراسة.

*على المستوى الاجتماعي: تم طرد قسم من السكان الأمازيغ إلى ما وراء خط اللمس، وهم المعروفون بالموريين، الذين فضلوا العيش خارج الخط، حيث فرض عليهم الوضع الجديد، العودة إلى التنظيم القبلي استعدادا لطرد المستعمر، وتعبيرا عن الحرية. أما القسم الثاني من السكان، المعروفون بالنوميديين، فقد خضعوا للاستغلال العبودي في المناطق المحتلة، للعمل في الفلاحة، لكنهم كانوا من حين لآخر يثورون، فانطبعت ثوراتهم بطابع اجتماعي بزعامة « تكفارناس ».

في اعتقادي أن الخلاصة العامة التي يمكن أن نخلص إليها، من استعمار الرومان للمغرب، أن الرومان أدخل المغرب إلى نمط الانتاج العبودي، وبذلك ضيع عليه فرصة تاريخية من محاولات التحول؛ ومع ذلك ستعرف المنطقة، رغم الشلل الروماني لها، تطورات جديدة منذ القرن 3 م نتيجة عدة عوامل منها:

*ثورات الأمازيغ المستمرة ضد الرومان.

*تفكك الامبراطورية الرومانية منذ القرن 5 م ونهاية نمط الانتاج العبودي، الذي سيحل محله نمط الانتاج الفيودالي، بعد غارات القبائل الجرمانية على الرومان.

هذه بعض العوامل التي ساعدت المقاومة الأمازيغية، على تحرير أجزاء هامة من البلاد، وإعادة بناء الكيان القبلي، مما أعطى صلابة أكثر للسلطة الأمازيغية التي كانت في طريق تشكيل الدولة ذات السيادة الواحدة والقانون الموحد والأرض المحددة.

اختلف المؤرخون حول مفهوم مهيكل لتاريخ المغرب، ابتداء من القرن 7م مع مجيء الولاة العرب من المشرق إلى المغرب،  فهناك من يستعمل  الفتح الاسلامي وآخرون يستعملون مفهوم الغزو الإسلامي ويمكن أن نسميه  كذلك الغزو العربي  ، فهذا الغزو امتد من  القرن 7 م إلى بداية القرن 8 م؛ وهي مدة طويلة مقارنة مع مدة الفتح في مصر والشام، ارتبطت  هذه المدة الطويلة بمجموعة من العوامل، منها الصراع السياسي حول الخلافة في المشرق ثم طبيعة المغرب الجغرافية والتاريخية، هذه الاخيرة متجسدة في الموقف الرافض  للأمازيغ اتجاه الأجنبي، انطلاقا من تجربتهم مع الرومان؛ إضافة إلى صعوبة تواصلهم بسبب عائق اللغة ؛ غير أن بعض المؤرخين يستبعدون هذا العامل الأخير؛ في مقابل ذلك ساهمت مجموعة من العوامل في اعتناق الاسلام ، ومن أهمها انتشار فكرة التوحيد  في البيئة الأمازيغية مع المسيحية؛  كما أن طبيعة الإسلام ومبادئه التي تعتبر المسلمين سواسية مهما اختلفوا في اللون والعرق، ساهمت في تبني الدين الجديد، وبالتالي سهلت النقلة الاجتماعية للأمازيغ وامتلاكهم النفوذ السياسي والاجتماعي إلى جانب الفاتحين العرب، على عكس القانون الروماني الذي أقصى  الأمازيغ من الحق السياسي والاجتماعي؛ أضف إلى ذلك  اشراك الفاتح العربي، زعماء القبائل في الاستفادة من الفائض الاقتصادي الناتج عن الغنائم بالأندلس التي قادها القائد الأمازيغي طارق بن زياد، تحت امرة الوالي موسى بن نصير 712 م، وبذلك انفتحت سيرورة اندماج المغرب في المشرق،ـ غير أن مسألة الاندماج يمكن التعامل معها بتحفظ. هل نعتبرها تبعية؟ أم نسميها اندماجا في الأمة العربية الاسلامية؛ وهنا تطرح اشكالية أخرى إلى أي حد يجوز استعمال هذا المفهوم في هذه المحطة التاريخية؟

لكننا عندما نعود الى الاستاذ عبد الله العروي، نجد له رأي آخر حيت يقول: «اعترف شيوخ البربر بسلطة الخليفة كان مقابل اعتراف الفاتحين بسلطة الشيوخ، عندما عرضوا عليهم اقتسام امجاد وغنائم فتح الأندلس » مجمل تاريخ المغرب ص: 113.

وهكذا ظهر خلال القرن 8 م بالمغرب الاقصى عدة إمارات، تشكلت من تنظيمات قبلية مذهبية منها: إمارة بني رستم في المغرب الأوسط وإمارة بنو مدرار في سجلماسة وإمارة برغواطة بالمغرب الأقصى بالسهول الأطلسية وإمارة آل نكور بالشمال المغربي …أما الذين جسدوا مؤسسة « الدولة « فهم الأدارسة، غير أن هذا الكيان بقي تحت النقاش. هل نعتبر الأدارسة دولة أم إمارة؟ بل هناك من يعتبر، أن مشروع وحدة الكيان المغربي، وبناء الدولة المركزية لم يكتمل في العصر الوسيط،  بل سيتراجع خلال القرن 10 م بعد تفكك الأسرة الادريسية إلى إمارا ت مستقلة، أو تابعة لأحد أبناء ادريس الثاني، بسبب تداخل عدة عوامل منها: عجز الأدارسة عن التحكم في المجتمع المدني مجاليا واجتماعيا، وفشلهم في هزم المذاهب الفكرية والسياسية، كمذهب الخوارج والشيعة في المغرب، إلى أن جاءت الوحدة الثانية مع المرابطين خلال القرن 11 م.

لقد فشلت المحاولات الوحدوية للأدارسة كما فشل الفاطميون في الغرب الإسلامي؛ لكن عندما جاءت الدولة العصبية المرابطية، تمكنت من استكمال مشروع بناء الكيان السياسي، وتوحيد جزء هام من المنطقة من شمال الأندلس والمغرب الأقصى والقسم الغربي من المغرب الأوسط وبلاد السودان (السنغال ومالي حاليا) خلال النصف الثاني من القرن 11 م، حيث نجح المرابطون في المحاولات الوحدوية، عكس سابقيهم ويعود الأمر في ذلك للعوامل التالية:

 *اقتصاديا: عرفت المحاور التجارية الصحراوية خلال النصف الإول من القرن 11 م، انحرافا نحو الغرب، خوفا من الاستيطان القبلي العربي البدوي، بنو هلال وبنو معقل وبنو سليم في المغربين الأدنى والأوسط، مما أعطى فرصة لقبائل صنهاجة ولمتونه ومسوفة وجدالة للاستفادة أكثر من التجارة الصحراوية، تمخض عنها فائض اقتصادي، ساهم بدوره في فرز اجتماعي، باغتناء الارستقراطية القبلية، وهو شرط من شروط بناء الكيان السياسي في تلك المرحلة التاريخية. كما اعتمد المرابطون على اقتصاد المغازي.

*ايديولوجيا: إن سيرورة الوحدة التي أفرزها الجانب الاقتصادي غير كافية، مما تطلب وحدة عقائدية مثلها الإسلام ووحدة مذهبية، ساهم في تشكيلها المذهب المالكي.

*عسكريا: ساهمت الايديولوجية الدينية في تكون جيش منظم يأخذ أجوره من اقتصاد المغازي.

اختم بطرح سؤال: ما هي المحطة التاريخية في سيرورة المغرب، التي يمكن أن نقول، كانت انطلاق تشكل إرهاصات الدولة الوطنية؟

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *