ابن كيران مات سياسيا
فؤاد الجعيدي
لنقلها بالوضوح المطلوب، أن ابن كيران انتهى سياسيا، لكن نهايته كانت مكلفة للبلاد والعباد.
ففي الحقبة التي استقوى فيها الرجل، من موقعه كرئيس للحكومة، عمل على تبخيس الخطاب السياسي، بملاسناته المعروفة، التي كانت تنهل من قواميس الشعبوية بلغة ساقطة في العديد من المحطات.. وطيلة المدة التي قضاها في رئاسة الحكومة، ولم يكن يمثل فيها رجلا من رجالات الدولة، والجميع يعلم أن ابن كيران أتى في جبة فقيه غير متمرس على متطلبات العمل السياسي، بقدر ما كان يمثل اتجاها، قدم نفسه في العديد من التجارب السياسية العربية، باستخدام الدين وصياغة تصورات تفيد أن هؤلاء لهم وصاية سماوية على عباد الله، وجاؤوا لتخليص الناس من جهالتهم وزيغهم عن الصراط المستقيم..
غير أنهم وفي كل التجارب التي وصلوا فيها لتسيير الشأن العام، قدموا لنا نماذج سيئة فيما يتعلق بالتدبير السياسي للأزمات، بل وزادوا الطين بلة كما حصل في بلاد المغرب.
إنهم يشكلون اتجاها يمينيا موغلا في تكريس قيم التفاسير الغيبية واللاهوتية، وينهلون على المستوى الشعبي من كل ما يقربهم من تنويم الناس، وشحن نفوسهم على التخلي عن متع فانية في حياة الدنيا والإقبال على آخرة يشكل فيها خطابهم الديني طرقا لقراءته على هواهم.
إنهم يعملون على تجييش الناس اتجاه الثقافات الانسانية وتراكماتها، وأنهم دون غيرهم من الناس من يمتلكون النقاء والصفاء والزهد في حياة الدنيا..
لكن الوقائع تفيد أنهم من تجربتهم لإدارة الشأن العمومي، أثقلوا كاهل إداراتنا بكفاءات لا تسمن ولا تغني من جوع، وليست لها نظرة لما ينبغي أن يكون عليه واقع الناس من عدالة وكرامة وتقدم..
في العديد من المدن المغربية عملوا فيها على تفريخ نوع خاص من الباعة المتجولين، لهم امتدادات ايديولوجية، يروجون فيها لثقافة الشرق الأعمى في أكثر صورها رفضا للعلوم الحقة ومناهضة الفكر المتنور..
ولم تكن الحرب التي خاضها ابن كيران ضد رجال التعليم في بلادنا لتخرج عن هذا السياق، ولم يتورع في نعتهم ( بالقراد الذي يلتصق بالكلاب).. ولم يتردد في اتخاذ قرارات قاسية ضد الكادحين والمأجورين، وقد أجمعت كل الخلاصات للفرقاء الاجتماعيين، أن حقبة تدبير الشأن العمومي من طرف العدالة والتنمية، كانت سنوات عجاف، فيها تم التصدي وبقوة للنقابات وتجميد الحوار معها، لكن الأيام كشفت أن هذا الحزب الإسلاموي، قدم خدمات لا تعد ولا تحصى لأرباب العمل ومالكي وسائل الانتاج والمؤسسات المالية والتأمين، على حساب المصالح الحيوية للأجراء.
لكن أخطر ما عشناه في هذه التجربة السياسية غير المأسوف عليها، أنه تم تكريس انعدام الثقة بين المواطنين وما يقوله هذا الحزب الإسلاموي وشيخ زعامته ابن كيران، والذي لم يجد حرجا في الحديث العلني عن وضعه الاجتماعي الصعب وهو الذي تأويه زوجته أم أطفاله، داخل بيتها.
ولم يتردد في القبول بهبة بالملايين شهريا، وهو أدرى الناس بالظروف المالية الصعبة للبلاد..
لماذا يعود ثانية، لتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي ؟ ما الغاية من هذا الحضور السخيف والمبتذل؟ بما يحاول إقناع أمة لها من المثقفين والجامعيين من يكدحون من أجل أجر شهري، وبعرق الجبين لا يعادل هبته؟
كفى من هذه الحلقات الرخيصة، في ظل أوضاع ما أحوجنا فيها للثقة واسترداد منسوبها وبالأخص في العمل السياسي وبين كافة الفرقاء والمواطنين.
وكفى أيضا من هذا التأليب المنحط، البلاد في هذه الأوضاع الصعبة التي تمر منها في أمس الحاجة إلى رجال لاهم بالرسل ولا هم بالأنبياء ولكن على أيديهم تقضى حوائج الناس.
البلاد تمر بظروف جد دقيقة وحساسة، وعلى كل نقاش وطني أن يستحضر هذه المعطيات من منطلقات وطنية توضع فيها مصالح البلاد العليا فوق كل اعتبار.
الصراعات الدولية وبمخاضتها اليوم، لن تغفر لأي كان أن يظل يتربص بنا من أجل امتلاك حفنة زائدة من المال على حساب التطلعات الكبرى لبلادنا في الولوج إلى عصر الدولة الاجتماعية.
اليوم يتضح أكثر من أي وقت مضى، أن دعاة الخوصصة يعيشون أسوء لحظاتهم، لانهيار منظومة الجشع الأعمى للمال على حساب التوازنات الاجتماعية..
فقبل كرونا كان ابن كيران يتشدق بضرورة التعجيل بتفويت المنظومة الصحية للخواص، ولم يرف له جفن أن هذا الاتجاه كان مؤهلا لخلق مزيد من الأعطاب في المجتمع، وهي الأعطاب التي بات واضحا أنها كانت تشكل الحاضنة الطبيعة لابن كيران وحزبه، الذي اقتات من مآسي المواطنين وأحزانهم..
وأن كل من يجاريه في هذه النزعة، مصيره الإجهاض الاجتماعي المبكر.
في السياسة الناس لا تلدغ من الجحر مرتين، وهذا ما يعني أن ابن كيران مات منذ زمان وأن الموت السياسي يلاحق كل من يستبلد الناس.