شبح
من إبداعات شيخ القاصين عبد الحميد الغرباوي
ينام ويستيقظ…
يأكل ويشرب ويذهب إلى دورة المياه…
يمشي في الأزقة والشوارع، ويسمع ويرى…
يفرح ويحزن ويضحك ويصرخ…
لكنْ، خارج أهل بيته،
لا أحد يراه،
لا أحد يسمعه…
ما حكايته؟…
***
استيقظ ذات صباح، لم يشعر برغبة في تناول فطوره، جلس إلى مكتبه، بحث في أوراق، وضع ثلاثا منها جانبا يرتعش كما لو أنه مصاب بحمى.. حمى باردة…
لم يعد يتذكر بالضبط ما رآه ليلة البارحة في حلمه، لكنه متأكد من أن الحلمَ، بل الكابوس، هو سبب مزاجه العكر…
بحث في الرفوف عن كتاب يشغل يده وهو يمشي، قد يقرأ منه صفحات في مكان ما.. لم يرق له أي كتاب…
ارتدى ملابسه ثم خرج…
في الخارج، اعتراه إحساس غريب…
بعض الذين كان يحييهم تحية الصباح برأسه لا يردون على تحيته، القادمون في الاتجاه المعاكس يكادون يصدمونه، لولا انحرافه عنهم في آخر لحظة…
في المقهى، لوح للنادل الذي نظر في اتجاهه، وانتظر قهوته المعتادة.. انتظرها طويلا…
غاضبا قام، وأرجأ توجيه عتابه لصديقه النادل، لأول مرة يتجاهله، أو لم يعره انتباها…
عاد سريعا إلى البيت، لم تكن عودته بالأمر السهل، في الطريق، كانت الأجساد تتقدم في اتجاهه، كما لو أنها تريد افتعال اصطدام، كما لو أنها لا تراه…
كانت لا تراه فعلا..
تأكد من الأمر، حين لمح صديقا فبادر إلى تحيته..
ناداه فلم يسمع نداءه، اقترب منه حتى صار الكتف على الكتف، لكن صديقه واصل طريقه كما لو أنه شارد الذهن..
لم يكن شارد الذهن…
فقط،
لم يسمعه …
لم يره…
في البيت، جلس إلى مكتبه وشرع يكتب عن الشبح الذي سرق منه جسده…
عجز القلم لحظة عن مطاوعته…
لكنه أصر إلى أن طاوعه .
انشغل تفكيره بواقعه الجديد والغريب…
كيف سيعيش حياة عادية بين الناس؟…
من سيسمعه إذا ما اعترض على أمر؟ أو تعرض لإجحاف و ظلم؟…
أو عبر عن إعجاب أو فرح؟
كيف سينبه شخصا ما إلى وجوده بجانبه؟…
امرأةً جميلة مثلا…
عاشقين يظنان أنهما بعيدين عن الأعين الفضولية…
من سينتبه إلى وجوده، ويهب إلى إسعافه إذا ما وقع مغشيا عليه؟…
كيف سيجالس أصدقاءه في المقهى؟…
من سيشعر بكينونته؟…
إنه شبح…
مجرد شبح..
تنطع له القلم مرة أخرى، فواصل كتابة قصته في داخله…
واصل الكتابة عن حالته الغريبة وهو يتابع سهرة غنائية مسجلة، احتفاء بالمطرب الشاعر شارل أزنفور…
رائع هذا الأرميني !…
اثنان وتسعون سنة !…ولا يزال يقف على الخشبة!… لم يصدأ…بتعبير أحد الفنانين…رحل من رحل ولا يزال بلبلا يصدح!..
رائع في طربه وشعره وإصراره وصموده أمام أكثر من عاصفة…
قرر أن يتكيف مع حالته الجديدة…
خرج، ملتمسا طريقا طويلا، كي يتعود على الانفلات من بين الناس وتجنب الاصطدام بهم…
كي يتعلم المشي من جديد…
وربما، كي يبحث له عن لغة جديدة تصل إلى آذان الناس…
وربما يلتقي بشبح آخر، أكيد ليس وحده من يعاني…
يلتقي بأشباح حالاتهم تشبه حالته…
ينكبون على البحث عن مخرج لهم من محنتهم…
أزنفور يصدح بأن يحملوه إلى أقاصي العالم،
إلى نقطة بعيدة لم تطأها قدم إنسان بعدُ…
إلى بلاد العجائب..
يتحدث عن البؤس…
عن الحنين…
لكن حالته لا تشبه حالة الأرميني…
أجل، يبحثون لهم عن مكان آخر…
مكان آخر، في أقاصي الدنيا حيث يعيشون حياة جديدة، يتزاوجون وينجبون أشباحا صغيرة، تكبر وتتزاوج و…
هذا هذيان…
مجرد هذيان شبح…
وقف ينتظر الضوء الأخضر…حبست السيارات أنفاسها…إلا واحدة أبت أن تقف مادامت الطريق خالية من السابلة…
سقط…
بدت لحظةُ السقوط مشهدا مفجعا..
شخص مدرج في دمائه، بين الحياة والموت…
نسبة الحياة ضئيلة جدا…
خيط رفيع، رفيع جدا وهش يفصله عن الموت…
لم يعد شبحا…
كان جثة ممدة وسط الطريق ومن تحتها يسيل في صمت رهيب خيط دم..
في جيب معطفها ثلاث أوراق: فاتورة الماء والكهرباء، فاتورة الهاتف، و كشف بحساب بنكي…
وفي رأسها كابوسٌ لغزٌ،
وصدى أغنياتٍ،
و قصة …
…………..هذه القصة…
ــــــــــــــــ
من مجموعة قصصية قادمة ( لا طمأنينة في مدينتي)