ثقافة الاعتذار
ذه/ ثريا الطاهري.
الاعتذار يعني الاقتناع بالخطأ وتصحيحه، والاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتذار عنه فضيلة أخرى اضافية ، وهما في نفس الوقت من الوسائل التي تمنعنا من فقدان من نحب، ويحولان دون تطور الخصومة إلى جفاء أوعزل واعتزال.
ما أقسى أن يصبح الأحباء غرباء، يسيء بعضنا للبعض عشرات المرات فلا يقول: آسف أو عفوا أخي أو أختي، ويجرح بعضنا البعض جرحا عميقا ويخجل من اختيار كلمة من كلمات الآسف، ولذلك نقول بأن هؤلاء هم أشد المكابرين الرافضين للاعتذار، والمعتقدين أنهم فئة مثالية يحق لها حتى وإن أخطأت أن لا تعتذر لمن هم دونها مرتبة أو درجة ، ولا يجدون أي حرج في عدم الاعتذار لأي كان، وكأنهم من عالم آخر غير الذي نعيش فيه . وعندئذ يجد الواحد منا نفسه مضطرا للتخلص من بعض العلاقات المؤدية نفسيا وصحيا، لان العلاقات تتعوض لكن الصحة لا ولن تعوض ابدا ، وتأسيسا عليه أقول لنفسي اولا ،ولكل أحبتي ثانيا : « لا تستنزفوا ود الطيبين، ففي غضبهم ما لا تقدرون على احتوائه ».
ان كلمة آسف أو عذرا بسيطة جدا ،غير انها تفتح القلوب وتذيب الصخور، وتمسح عن الروح غبار الحياة اليومية ومشاكلها ، وتجعل الآخر /الأخرى ينسى أو يتناسى، فيبتسم وكأنه لم يحمل الهم يوما، فحب الناس والتعامل معهم بألفة ورحمة، هو من القيم السامية التي تدعو اليها مختلف التشريعات السماوية ،والقوانين الوضعية المتعارف عليها ،لضمان حياة هنية بين كل البشر وعبر كل الامتدادات الجغرافية .
وفي المجتمع العربي والإسلامي نجد ان ثقافة الاعتذار قليلة جدا ،ان لم نقل انها تكاد تندثر ، بسبب العديد من الخلفيات الثقافية والتربوية، فمعظم الناس يستثقلون نطقها ، تكبرا أو شرا أو بطرا ، ظنا منهم /منهن أن الاعتذار ينال من مكانتهم وينقص من كبريائهم ، او يحط من كرامتهم الشخصية ، بل هناك من يعتبر أن الاعتذار عن الخطأ ،ما هو الا تشجيعا للآخر على التمادي في سلوكيات معينة ، تكون حاطة من الاخر بغض النظر عن موقعه ومكانته ضمن السلم الاجتماعي ، وحينما يتعلق الأمر بالمخطئ نفسه ، في حق أي كان ، فانه يتذرع بحالة الغضب والثوران، أو بمجموعة من الضغوطات التي يفرضها ثقل الحياة اليومية. وقد نتفهم أحيانا وضعية المسيء، ومع ذلك فان تجاهل الخطأ وعدم الاعتذار ، يبقى خطأ أكبر وبكثير من الخطأ المرتكب في حد ذاته، فكل شخص منا معرض للخطأ في الآخرين، لكن تختلف طريقة تعامل كل واحد منا مع هذا الأمر، فهناك من يحاول تفاديه ويبرر موقفه بأفعال تنهل من حوض الكلمات الطيبة ، دون أن يكلف نفسه عناء التلفظ بكلمة آسف أو ما يدور في فلكها من اعتذارات . كما أن هناك من ينقص من حجم الخطأ الكبير ويتناسى الاعتذار ، مسببا – بذلك – اثارا نفسية للآخر، واذا كان مصير الجسد أن يشفى مع الوقت ،مهما أثخنته الجراح واثقلته ،فإن السؤال المطروح يتلخص في : ماذا عن الام الروح ؟
فاذا كنا حتى في الأحاسيس نقول : عذرا أيتها الأحاسيس، فانا أحيانا نضطر لقتلك ونتخلص منك كي لا تقتلينا ولا نعتذر لأننا سامحنا كثيرا. مرة واثنين وحتى ثلاثة. وفي كل مرة نفقد شيئا ما، من الثقة والحب والاهتمام والاحترام والصبر…….وتتعدد هذه الواوات ،فإن لم تكونوا أوفياء احبتي فلا تعبثوا في قلوب الأنقياء.
ان الاعتذار ثقافة راقية وخلق عظيم، وبرهان صدق القلوب الحية، يكشف عن رجاحة العقل والأمانة والنزاهة والإنصاف في التعامل مع الأمور، ويبين مدى التشبع بالقيم الكونية ، غير ان البعض – وللأسف الشديد – يعتقد أنها إهانة للنفس وحط من كرامتها ، لكن الاعتذار عن الخطأ لا يجرح كرامتك ابدا ، بل يجعلك تكبر وباستمرار بعين من أخطأت بحقه، ويعلن عن بداية جديدة للتسامح والصفاء وخلق أجواء من المحبة بين الناس.
ان معالجة الأخطاء والاعتذار فن راق ، ويستوجب نوعا من تحمل المسؤولية والشجاعة للاعتراف بالخطأ المرتكب والاعتذار بكل بساطة، ليس ضعفا ووهنا أو استسلاما، بل هو العطر الجميل الذي يحول أكثر اللحظات حماقة إلى هدية جميلة، مطبوعة بالمحبة والتفاهم ، غير ان هذا الأمر/ السلوك لا يمكن أن يقوم به الجميع ، لأنه غالبا ما يتم انكاره ،أو التنكر إليه، ويلجأ الى تفسيره بإلقاء اللوم على الطرف الآخر، بينما المعني بالأمر يعمد الى تقمص دور الضحية.
ومهما كان حجم الخطأ فلابد من تحمل المسؤولية ، بدل الانكار وتقديم الاعتذار تفاديا للدخول في العلاقات السامة، فعندما تنفذ كلمة آسف أو عذرا إلى الروح الممزقة أو القلب الحزين، فلا حاجة عندئذ إلى التفسير أو إلى مترجم حتى ولو اختلفت اللغات.
وقد يلتمس الواحد منا الكثير من الأعذار للمخطئ القريب لأنه يريد المحافظة عليه ضمن دائرة معارفه ، عوض أن يخسره ،ويغض الطرف ويتجاوز، ويبادر رغم الجرح، ورغم الخطأ ، فيتصل ويسأل وكأن الامر لم يحدث، ويوهم نفسه قائلا بأن ما وقع ليس مقصودا، فيقلل من صغائر الأمور لأنه يحترم ذاته، ويقدر الاخرين ، فالإخلاص فعل خفي لا رقيب له ،إلا الضمير والتشبع بالقيم الكونية الشاملة والأخلاق الطيبة ، والنهل من احواض الكرامة ، وانيق الأفكار……، لكن هناك أفعال وسلوكات قد تتخطى الحدود، وتأبى الذات أن تسامح أو تتنازل ، أفعال لا يمكن الا تعاقب أصحابها باتخاذ المواقف الصارمة، فحين تجرح أحدا ما ، فأنت تطرق مسمارا في قلبه ونفسه حتى وإن اعتذرت وأزلت تلك المسامير، فانك لا تنزع أثرها ،لأنه سيبقى كذكرى مؤلمة تنوخ بثقوبها كثقوب المسامير حين طرقها.
وقد يحتاج بعضنا إلى تعلم كيفية الاعتذار، عندما يقع في شرك الأخطاء ، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة ، لان الاعتذار في جوهره هو إظهار الندم على فعل معين، والاقتناع التام بأن هناك خطأ ،أو امر ما ينبغي تصحيحه والاعتذار عليه ، الأمر الذي سيساعدنا على إعادة الثقة في ومع الآخر ، والاستحضار الدائم لكرامته، ومع ذلك قد تبقى كلمة آسف وحدها غير كافية ، الا اذا كانت نابعة – وبصدق – من أعماق القلب اتجاه من اسئت إليه أو تكون قد ظلمته.
تعجبني الأرواح الراقية التي تحترم ذاتها وتحترم الغير، تطلب بأدب، وتشكر بذوق وتعتذر بصدق متناه بعيدا عن اي رياء اجتماعي ، ولا تؤذي الآخرين كيفما كانت طبيعتهم / طبيعتهن ، او وضعياتهم / وضعياتهن .ولا تجعل نفسها متعالية عن الزمن والآخرين ، فهي ارواح تسمو بأصحابها من وضعية الأخلاق المبتذلة إلى متطلبات الأخلاق الرفيعة والمشبعة بقيم المواطنة الحقة ،والتي لامجال فيها للجروح او التهمش أو التنقيص، والحرص على ترفع النفس عن كل ما لا يليق.
ان الاعتذار هو منهج النفوس الطيبة، والبلسم الشافي للكثير من الجروح، وهو فن لا يتقنه جميع الناس ، رغم أنه لا يتطلب علما معينا أو ثقافة خاصة ، بل هو سلوك ومسلكيات يتحلى بها كل من هو / هي مشبع بقيم المواطنة الحقة، ويبقى اجمله هو اعتذار القوي للضعيف
والإنسان المواطن هو الذي يقبل أعذار الآخرين ويتسلح بخلق « العفو عند المقدرة « ،وقبول اعتذار المعتذر ليس ابتلاع الإهانة، بل هو سلوك المتسامحين الذين يعرفون دلالات القيم كالكرامة والتسامح والصفح ،وما يدور في هذا الإطار، ورغم أنه لا يمحو الجرح الغائر، غير انه قد يمنعه من التوسع والامتداد او الانتشار ، مهما بدا الأمر عصيا على الإصلاح. كما ينبغي على المعتذر / المعتذرة أن يجعل اعتذاره بمثل ما كانت اساءته، فالسر بالسر، والعلانية بالعلانية، فلا يصح أن يكون الخطأ معلنا والاعتذار مستورا، فهذا ليس من الإنصاف في شيء ،بل الأفضل أن يكون الخطأ سرا والاعتذار علنا، وهو ما يجعلك كبيرا بعين من أخطأت بحقه.
وأحيانا قد لا يمكن أن يعالج الجرح بالاعتذار، فالاعتذار يقبل حين يتأخر الإنسان عن موعد، أو يتصل برقم خاطئ، أو يتغيب عن حدث…. أو ما إلى ذلك من السلوكات .أما أن كان الأمر أكبر من ذلك فإن الاعتذار قد لن يزيل أثار الفعل وخدوش الصدمات، وجرح الخيبة لأنها تبقى موشومة في الروح والذاكرة، فالاعتذار بعد فوات الأوان كالتعازي لايرد الميت، أو كقبلة على جبين الميت، فالله عز وجل يقول في كتابه العزيز في سورة غافر ( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ومع ذلك عندما يأتي المخطئ معتذرا يطلب العفو، فمن باب اولى قبول اعتذاره لأن ذلك من الشيم والفضائل ، وقبول المعتذر إليه يدل على تواضعه والله يحب المتواضعين، فالرسول(ص)قال : « كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون » والمعتد بنفسه المكرم لها هو من يصون نفسه ولا يوردها مورد الخطأ كي لا يضطر إلى الاعتذار.