عناوين المغرب الصاعد
فؤاد الجعيدي
من حسنات الجائحة، أنها فتحت عيون المغاربة، لتأمل كل الخصاص الذي كنا نبطه وندفيه بالكلام المنمق والخطب العصماء، التي كان يجيدها الفقهاء الذين أتى بهم الحراك الاجتماعي المغربي.
ولم يتردد الشعبوي ابن كيران للمطالبة جهرا، بضرورة تفويت قطاع الخدمات الصحية والعلاجات الاستشفائية للخواص، ولم يرف له جفن وهو أدرى الناس بأن الفقر يصيب 4.5 مليون مغربي، ولم يتحرك فيه أدنى شعور إنساني وهو ينزل أقصى الضربات، على الطبقة العاملة وعموم الكادحين في هذا البلد السعيد، بدء بصندوق المقاصة والمساس بمكاسب صناديق التقاعد واشتراكات العمال.
لكن المؤسسة الملكية، التي كانت تجيد الإنصات لنبض المجتمع العميق، قد تداركت في الوقت المناسب هذه الاختيارات العرجاء، وطالبت جهرا بأن يكون قطاع الصحة في الواجهة، لتتحمل كلفته الدولة التي أرجأت النظر في التوقف الاقتصادي، وسارعت لإخراج مشروع الحماية الاجتماعية في مقاربة جديدة لم يعهد مثلها التدبير السياسي والاجتماعي في المغرب الحديث.
ولما وضعت الحرب الفيروسية حدا لحصادها للأرواح البشرية، استفاق المجتمع ونسيجه الجمعوي الحي، بتنظيم التظاهرات الحقوقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية.
استرد الناس هذه المرة، قوة أنشطتهم الاجتماعية، بالتركيز على تطارح القضايا الفكرية والمعرفية، ولكأنهم يصرون على تدارك ما فات بهذا الزحم من اللقاءات والندوات والمحاضرات، والتي تتساوى فيها مبادرات الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني الحي، لتقديم الأجوبة الممكنة على الأوراش المفتوحة. بكل المدن المغربية من الشمال إلى الجنوب.
لكن الملاحظ أن كل الفاعلين في هذا المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، باتوا يتحلون بجرأة خاصة في إثارة الموضوعات، والتي تعبر في عمقها عن درجة نضج أوضاعنا الوطنية، والتي غدت تقلص من مساحات الطابوهات التي سيطرت لعقود من الزمن والتي كانت الدولة فيها تواجه الاجتهاد والجرأة في الرأي واختلاف القناعات بالتصدي الحازم والاعتقال والقمع.
لقد خفت هذه القبضة الحديدية، منذ أن بادرت الدولة لدعوة مثقفيها للخوض في الأسئلة الحقيقية لمسارات التطورات العامة التي عرفها تاريخنا المعاصر، وما ضيعناه من فرص لم نحسن التعاطي معها بما يلزم من المناعة الديمقراطية، وتلك هي الخلاصات التي صاغها تقرير التنمية على مدى نصف قرن.
اليوم هذه الجرأة في التعاطي مع القضايا المجتمعية تؤكد أنها الخيار الأنجع، لهذا المغرب الصاعد، الذي دشن طريقه نحو الحداثة، غير أنها حداثة تتصدى لها جيوب مقاومة تقليدية ذات توجهات رجعية وتنشط في الأوساط الشعبية، التي تعاني من الهشاشة والخصاص، وقلة الحظوظ في الولوج إلى أفضل الخدمات الصحية والتعليمية وتظل عرضة للابتزاز والاستغلال من طرف القوى التي بنت طروحاتها السياسية، على توظيف الدين والأذرع الجمعوية التي استندت على ثقافة العمل الخير والإحساني في مجملها، ونأت عن المساهمة في ترسيخ الثقافة الحقوقية وتأمين كرامة المواطن التي تريده في إطار تنظيماتها الدعوية من الرعايا الذين يعيدون إنتاج علاقات اجتماعية، لم يعد لها المناح الاجتماعي الذي يساعد على استمراريتها لا سيما أن سنوات تدبيرها كشفت عن النوايا الحقيقية لأقطابها الذين تمكنوا من تغيير مواقعهم الاجتماعية، وتكذيب شعاراتهم التي حملوها للناس بالبهتان الأيديولوجي.
الفارق اليوم أن المجتمع بات يتعطش للأدب والفرجة المسرحية والندوة الحقوقية والترافع من أجعل عدالة اجتماعية والحق في توسيع دائرة المشاركة والمساهمة في الحياة الاقتصادية.