الكناس والكاتب
بقلم القاص عبد الحميد الغرباوي
الكناس
بالنسبة للكثيرين فإن أكياس القمامة الزرقاء التي يتركها أصحابها جنب حائط سكناهم لا قيمة لها..
طبعا، لا قيمة لها، إنها زبالة، ولا شيء آخر غير ذلك..
لكن بالنسبة لي، هي سجل مصور يعكس طبيعة الحياة اليومية لساكنة الحي..
كل كيس من الأكياس يعكس قدرات أصحابه الشرائية..
اسمحوا لي بأن أقدم لكم نفسي:
أنا واحد من كناسي البلدية. لست وافدا جديدا على المهنة، فأنا أزاولها منذ سنوات..
كل صباح و أنا أكنس، أتسلى بفحص تلك الأكياس، وسيلة لكسر الرتابة وأنا أكشط بالمكنسة أزبال الأزقة..
إشارة لابد منها، أتمتع بحنجرة لا بأس بها، يقول بعض الأصدقاء إنها دافئة، حتى أني دعيت للغناء في بعض الأعراس.. لذا حين تناوشني حنجرتي أقلد العندليب الأسمر.. ثمة عندليب أسمر واحد في الطرب العربي هو عبد الحليم..عبد الحليم حافظ.. فتنفلت حنجرتي من عقالها مرددة مقاطع من أغانيه..
الكناس المغني..
هذا لقب يُطلق عليّ..
أراه لقبا ظريفا يناسبني..
إشارة أخرى لابد منها، أعرف كل صغيرة وكبيرة تقع في دائرة عملي.
أحزان السكان أحزاني وأفراحهم أفراحي..
أحترمهم، وأقدر فيهم روح التحدي. هم يبحثون لهم دائما عن سبب ليعيشوا لحظات سعادة، حتى وإن بدا السبب مفتعلا..لكن تلك اللحظات، هي وسيلة تحد جريء معاند للكدر والحزن والخيبة أيضا..
أكياس القمامة البنفسجية تتشابه، النادر منها لا يفصح عما بداخله، و المعظم منها يفيض بما فيه فتبرز قشور خضر وفواكه وبقايا طعام وقنيناتُ بلاستيك المشروبات الغازية والماء، وحفاضات الأطفال و كثير من الأقنعة الواقية من الوباء، وأحيانا مزق أثواب.
الناس آكلة، شاربة والحمد لله..
الأكل والشرب يحظيان بأولوية في الحياة اليومية..
وعندما ترتفع أسعار المواد الأساسية، يكون ذلك مدعاة للقلق ولتوتر الأعصاب..
مهمتي تنحصر في كنس الأزقة التي حددتها لي الإدارة، أما الأكياس البنفسجية فتظل تنتظر لساعات مجيء الشاحنة، وأحيانا لا تأتي..
غداة مساء، وأنا أسترخي على كرسي في مقهى، بلغني خبر ساكن جديد بأقصر زقاق في دائرتي..،
مع توالي الأيام، لاحظت أن الساكن الجديد لا يخرج كيس القمامة سوى مرة في الأسبوع، وقد امتلأ بعقب سجائر بيضاء، دليل أنه وفي لنوع واحد، وكبسولات قهوة مستهلكة و كم هائل من أوراق ممزقة وأخرى مكرمشة مطبوعة أو تسودها كتابة بخط اليد..
هذه الملاحظة دفعتني أن أطرح سؤالا بدا لي للوهلة الأولى بليدا:
» ألا يتناول هذا الرجل طعاما !؟ «
طرحت السؤال على نفسي بعد أن لاحظت أن محتوى كيس قمامته لا يتغير: عقب سجائر وكبسولات قهوة مستهلكة، وأوراق…كم هائل من الأوراق الممزقة و المكرمشة..
وخلصت في صباح يوم مبتسما ابتسامة استغراب، إلى أن الساكن الجديد من صنف لا عهد لي به يدمن التدخين وشرب القهوة ويتغذى ويتعشى بالأوراق.. »
الكاتب
أنا كاتب. كاتب قصص. لدي قصص منشورة في صحف ومجلات، و لدي كتب أصدرتها في المجال، ومع ذلك فشهرتي محدودة. تكاد تكون منعدمة. أصلا لا تعجبني هذه الكلمة. أحس أنها مرتبطة بالفضيحة. وأرى أنها تجرح خصوصية الشخص جرحا غائرا.. يُطلق على المشهور اسم » شخصية عامة » بمعنى أنه المثال والقدوة للكبير كما للصغير، لكن زلاتي وعيوبي كثيرة. أريد أن أعيش على سجيتي. لا استعداد لي ولا رغبة لي في لعب هذا الدور. لا أحب التصنع .. أنا هنا أتحدث عن الشهرة الإيجابية. ثمة مشهورون سلبيون، منحتهم أفعالهم الإجرامية شهرة واسعة، أولئك يستحقون العقاب و لا أفضل من السجن مكانا لهم يقبعون فيه متوارين عن المجتمع إلى أن يثوبوا أو ترأف بهم الأقدار..
طبعا ثمة فئة أخرى خلف القضبان جريمتها الوحيدة هي أنها تبالغ في الحلم.. تحلم كثيرا، عميقا.. ومن يحلم بهذا الشكل، يُتهم بالخروج عن الواقع والتطاول على القوانين المسطرة..
لن أسهب في الحديث عن نفسي..
وما أود قوله، هو أن شهرين مرا على إقامتي بهذا الزقاق في بيت سفلي يتكون من غرفتين، وطبعا مِنْ.. أ من الضروري أن أضيف : حمّام؟
لا زوج لي ولا أولاد.
متقاعد ومفلس.
والكتابة ليست مهنتي، بل هواية أمارسها وأملأ بها وقتي.
أولى الملاحظات التي لاحظتها، أن غالبية ساكنيه من العجزة، يقيم معهم أولادهم. أكثرهم متزوجون ولهم أولاد وبنات.. الأولاد، عكس البنات، كثيرو الصخب والضجيج في جل الأوقات، الأمر الذي أجد معه صعوبة في التفكير والكتابة. لذا، قررت بعد تمحيص وتفكير، أن أستيقظ كل يوم باكرا للعمل، ما عدا الأحد..
ثاني الملاحظات تتعلق بالكناس، الذي له موعد محدد مضبوط مع الزقاق، وحين يشرع في العمل، أعرف أن خروج الأولاد إلى الزقاق وشيك، فأستنفر كل ما أملك من صبر وقوة تحمل وأسابق الوقت لإنهاء ما أنا بصدد إنجازه..
ما يثيرني في الكناس هو طريقته في العمل، لا أعني بذلك طريقة استعماله للمكنسة، بل غناؤه.. أحيانا يكنس وهو يغني مقلدا المطرب العربي عبد الحليم حافظ..
أنشد إلى صوته وهو يغني:
جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري
ليس إلا بضع دقائق ويخرج الأولاد إلى الزقاق..
من الأفضل أن أتوقف عن الكتابة. وجدت هذا الصباح صعوبة كبيرة في وصفِ أطفال جياع يصرخون وهم يحيطون بأمهم الأرملة. لا أريد أن أقع في الوصف التقريري، المباشر.
خرج الأطفال وانطلق الصخب والصراخ.