شبيهي
من المجموعة القصصية ( عصافير تفرد أجنحتها عاليا)
لعبد الحميد الغرباوي
اتفقنا سرا، أنا و حفيدي، أن نغتنم فرصة القيلولة، ونذهب للتنزه في البستان.
كانت العائلة، قبل أسبوع، أجمعت على قضاء العطلة المدرسة البينية في البادية..
كان الطقس رائقا يغري بالنزهة، بدل النوم والشخير..
و هكذا خرجنا متسللين ، وقت القيلولة، من البيت وأسرعنا إلى البستان..
ركض كثيرا.. ركضت معه.. انقطعت أنفاسي. لم يتعب العفريت الصغير، لكني تعبت، فجلست على جذع شجرة ألاحقه بعيني..
ركل بقدميه المحشورتين في حذاء رياضي أبيض تربة البستان الهشة، فأحدث حوله زوبعة صغيرة حمراء..
نبهته إلى أنه يلوث ملابسه ويملأ رأسه ويعفر وجهه بالتراب، لكنه لم يأبه لتنبيهاتي، وواصل عبثه بالتراب..
و عندما مل من لعبة الركل، أخذ يرشق بأحجار صغيرة عصافير تحط على فروع شجرات ثلاث.. شجرات تفاح ثلاث.. يوجد في البستان، إضافة إلى شجرات التفاح، كوخ صغير. أعرف أن بداخله مهملات و أكياسا ومعدات فلاحة يدوية..
لمح تفاحة كبيرة صفراء في أعلى الشجرة الوسطى فطلب متوسلا أن أقطفها له..
لا مناص من تلبية طلبه..
تذكرت سلما قديما، فأسرعت إلى الكوخ. غبت لحظة، ثم خرجت أحمله على كتفي..
***
» أهلا صاحبي.. طالت غيبتك »
» أنت دوما في الذاكرة رغم الغياب الطويل.. لعلك مازلت تذكر شقاوتي »..
» شقاوتك فحسب ؟!.. و ماذا عن عنادك ؟ ..أذكر أن والدتك كانت تنصحك ألا تمشي على التربة حافي القدمين.. »..
» أجل، كنت أستمتع بغوص قدمي في التربة اللينة.. ما إن أغص أصابع قدمي فيها حتى يسري دبيب عجيب في كامل جسدي.. ولما صرت شابا يافعا، قوي البنية، لم أعد أأبه لنصائح أحد، وكنت أمرح حافيا على تربة البستان »..
» وأذكر أيضا مهارتك وخفتك في الصعود والهبوط والقفز على بعض درجاتي.. »..
» لم أعد، يا صديقي، كما كنت في السابق، قوي البنية، سريع الحركة..أنا اليوم، كما ترى، عجوزا، هش العظام، رخو المفاصل »..
» أخبرني، إلى أين تحملني؟.. »..
» إلى تلك الشجرة الوسطى، إنها رغبة الحفيد أن أقطف له تفاحة كبيرة صفراء لمحها في الأعلى، ولولا طلبه ما كان للقاء أن يتجدد بيننا.. »..
***
أسندتُ صديقي السلم إلى ساق الشجرة..
» انتبه، أنا أيضا صرت عجوزا، هش العود.. لعلمك، فارق العمر بيننا كبير، فقد اشتراني والدك قبل أن تولد بسنوات.. أشك في صلابة درجاتي، قد يكون بعضها يبس وصار سريع الانكسار.. »
صعدت في حذر..
قهقه الحفيد وهو يراني مثل الأعمى، أركل بإحدى قدمي الفراغ أبحث لها عن موطئ فأخطئ العثور على المرقاة..
واصلت الصعود.. و واصل الحفيد القهقهة..
كان السلم يترنح تحت ثقلي..
قلت له أن يتوقف عن القهقهة ويمسك السلم بإحكام.. اقتربت.. وصلت.. امتدت يدي إلى التفاحة، أنفاسي متقطعة.. قطفتها.. كنت سعيدا.. شرعت أنزل بطيئا، في حذر أنزل ، كفي تمسك بالتفاحة، أستعين بالمعصم وباليد الأخرى في الحفاظ على توازن السلم، وفي نفس الآن، أحاول ألا تخطئ قدماي الدّرجات..
قهقه الحفيد،
نط كجرو فرحٍ
اهتز السلم..
ارتبكت..
اختل توازني..
صاح السلم متململا: » انتبه يا صاحبي، تمسك بي جيدا »..
سقطت من يدي التفاحة الكبيرة الصفراء..
جنح السلم عن ساق الشجرة، تارة إلى اليمين و تارة أخرى إلى الشمال، ثم استقام واقفا، بعيدا قليلا عن الساق، استقام واقفا في التربة الهشة وأنا متشبث بطرفيه مثل بهلوان يقدم عرضا في مهارة التوازن، ثم أخذ ينكفئ إلى الخلف..
كان الانكفاء في البداية بطيئا.. أو هكذا بدا لي..
أعرق التوترُ والإجهاد جسدي.. ارتخت يدي فأفلتت القبضة على طرف السلم..
هويت صارخا صراخا مكتوما..
ارتطمت بتربة البستان الحمراء فلم أقو لبرهة على النهوض..
أحست بوخز إبر في ظهري، لحسن حظي لم يدم طويلا..
لحظت الحفيدَ يقف قريبا مذهولا وهو يراني مغمورا بالتراب الذي تسرب إلى حلقي فرُحت أسعل.. كانت حالتي مزرية..
بدت التفاحة، و أنا أمسح عيني بظاهر راحتي الملوثتين بالتراب، وجها أصفر يضحك.. ثم رأيت حفيدي يلتقط التفاحة بعد تردد قصير ويعود مسرعا إلى البيت.. لكن المحير بل المخيف الذي اضطربت له نبضات قلبي، سماعي صوتا غريبا كخشخشة خشب يابس يكلمني: » لا عجب، إنه شبيهك في شقاوة الصغر »..