النافذة البيضاء.

النافذة البيضاء.
شارك

عبد الرحيم كوديال /قاص من المغرب

                     « أمي :أهي لعنة أم لحيظة انصهار عابرة؟ »

سأحاول تملك نفسي؛ فكل الأشلاء تبعثرت في حجري؛ ترى من يرتبني؟ سأحاول كي أكتب إليك هذه الكلمات علها ترسمني في تجريد يفهمك مدى عمق الجراح التي لم تندمل إلى الآن؛ أنا اليوم وجدت هذا الباب مفتوحا، وقلت في نفسي لا بد أن أختلق خيطا يوصلني إليك بعدما عشت عمرا غريبا عنك، أقبع خلف الجدار الذي تتكئين عليه… اليوم عبر هذا الخيط أصنع من جديد طريقا إليك؛ لأعود إليك بل لأُعيد إليك مناديل أخذتها بين أشيائي حينما غادرتك أول مرة… أنا منذ السابعة غادرتك أمي… وأشباحي فقط هي من كانت توقظك في جوف الليل كي تشربي دواءك؛ أشباحي من كانت تعد الطعام لإخوتي بأوامرك؛ تحمل صغارهم تسكتهم حينما كنت تريدين ساعة هدوء من ضوضائهم؛ أشباحي من كانت تأخذهم جماعة إلى حمام الحي تغسلهم وتلبسهم وتعيدهم إلى البيت بتعليمات منك… أنا انسحبت من عالمكم أمي منذ السابعة وعشت بينكم بهيكل كان يزداد يوما عن يوم ذوبانا وضمورا…

أتذكرين أمي حينما كنت ألبس في العيد ثوبا جديدا أو أنتعل تلك الأشياء كي أفرح كالأطفال؛ إن ابتسامتي تلك الجافة كانت تخفي فيضانا من الأحقاد وجمهورا من الغيظ…إذ كنت أعلم أن فرحة العيد بالنسبة لي لن تدوم غير ساعة بعدها كانت أوامرك أمي تضع على ظهري أحد أبنائك الصغار؛ أو تعيدني إلى المطبخ من جديد؛ كي أعد الطعام للضيوف أو لإخوتي الذين كانوا يستمرون في اللعب حتى بعد الظهر؛ ليس هذا فقط ولكن كنت فوق هذا وذاك أخرج بثيابي القديمة ـ التي أغيرها بأمرك حينما أتولى مهمة الطهي والتنظيف ـ أبحث عنهم في الشارع ليدخلوا ويتناولوا غذاءهم… لقد بنيتِ بيني وبينهم أمي جداراً عازلا وكبرتُ أعتقد أنني عابرة سبيل أو خادمة سقطت سهواً من يد القدر في يديك؛ فعبثَت بي وجاهدت لتصوغني خلقاً آخر غير ما فطرت عليه.

فأظهرت لك الطاعة وأخفيت الغيظ يتناسل تناسل الجراد في البيد؛ أظهرت لك الخضوع وأخفيت الحقد ظلاما يحلُك كل عيد؛

لقد صنعت لك تمثالا من مخدتي وأسميتها « أمي » وكنت كلما أشعلَتني أعواد ثقابك؛ اختليت بك في غرفتي أعض تارة وأضرب أخرى؛ وأستمر في رفس التمثال حتى تختلط اللذة عندي بالانهيار فأسقط تعبة أخرِج البوح زفرات؛ وأطرد الوسواس وأغمض عيني وأسرح في استدعاء حلمي الدفين…

بعدها كنت أخرج إليك وملامحي تلتحف بسمة تمويه؛ وأهوي على يديك أحضنها بالتقبيل؛ هناك كنت أعلم أنني أبني بداخلي توأمين؛ مخلوق مشَكل من فجور؛ وآخر صنوه تقي لا يزال في ضمور…

هكذا كانت ضريبة أن أكون الفتاة البكر لديك؛ وأقسى ما كنت أجد منك أمي حرماني من تلك النافذة؛ إلى اليوم أمي لم أفهم مغزى أن أحرم من إطلالة منها كإخوتي؛ أن أشم النسيم أو أن أرى تنفس الصبح كالعالمين؛ إلى اليوم لم أفهم غاية أن تحرم علي وأن تحل لغيري! « 

في غرفتها المنزوية إلى يسار البيت والمتخلفة في التصميم خلف الحمام طوت الرسالة أربع طيات؛ وأحكمت عليها قبضة اليد وخرجت تتوسط جموع المعزين؛ تختفي وسط ثوب أبيض مسترسل الذيول؛ وتقدمت ببطء تقصد غرفة الأم التي امتدت على الأرض باردة شاحبة بالموت؛   تنتظر المغسلة والمكفنات؛ وكانت هذه ربما المرة الأولى التي تدلف فيها هذه الغرفة لذلك اتجهت رأساً صوب النافذة البيضاء؛ أزاحت الستارة على رفق تشم حواشيها وتتحسس نتوءات آخر زواياها المرصعة بالعقيق؛ وفتحت تتملى زجاجها وتسحب راحها على مقبضها الذهبي اللامع؛ بعدها ملأت رئتيها برشفة طويلة من الهواء مغمضة عينيها بتلذذ كأنما تستعمل حاسة الشم لأول مرة في حياتها ولبثت تعيد الكرة مرات ثم بعد أن أنهت طقسها الأسطوري التفتت إلى جثة أمها على الأرض وقالت : »لقد عشت دهرا في الظلام أمي!!

لم تركتني هناك باردة كالقطب؛ أعيش فصلا واحدا ؟! »

وانحنت على الجثة تقبل الرأس وتدس الرسالة تحت الذراع ثم انسحبت حثيثة تشق الجلبة مثيرة وراءها نقعا من القذف وهمهمات تتشظى عن سخط باد على الوجوه!

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *