المطر والأمهات وبلدة الله ..

المطر والأمهات وبلدة الله ..
شارك

د. سعيد ألعنزي الشفين

   أجواء تخصني وحدي أن للجغرافيا ذاكرة مدهشة في ترك أخاديدها في القلب والنبض، وللمطر عندي صفة تخصه وتخصني حبيبا أنزله منزلة العشق في كنف الانصهار، فهو يغسل الأرض من غبشها والقلوب من رمادها، ويخلف أوحالها الطازجات ونبضاتها العفيفات، وكذلك يغسل الروح من قديم خدوشها ومن عتيق جراحها، ويخلف أوبة لقديم الأوجاع بالمشاكسات والأحوال. تأملت في حال تلك القطرات التي تجري في شرايين المطر وترقص حتى لا تحتقن في الأفاق فيصيبها الوهن وتهددها بالسقوط على تعب القلب، فتبين لي أن المطر عرق السماء يتصبب لما حل بالأرض من غبن على محيا السديم .

   عقيب هطول المطر تخرج أعراف العشيرة لفتحه وإزاحة ما غضنته الدروب على أوصال الحكايا، يتقدمهم الموعد الأول، وكأنها تستدعي صارم المواعيد تذكرا لأيام الحزن البكر، هكذا يجدد نبضي تحت أخر حبيبات المطر حياته، والغمامات تحمل عنه الأدواء والظنون، وأول أفواج الحمائم المرتحلة تسلم على الصغار الذين يكتبون أول فصول العمر. ولكل مجرى حكايته الخاصة، فهذا منع انسراب هوس الأنين عبر بيته رهن شجار قديم بين القلب وقلبه، وذاك آثر على نفسه جدار آيل للسقوط بالجانب الأيمن من القصر كي تمر مياه مطر حنين تعبيرا لامتنان في عنقه تجل من متاهات العمر، رهن حكاية قديمة تقول أن عمر العمر فدى عمره عندما تصدى لضربة موجعة كادت تودي بحياته في مشاجرة عشائرية قديمة جديدة، والقبيلة عار التاريخ والتاريخ محكمة للدماء. ومزمع عقد القران عقيب نوء طرفة الليل بين أناي والكناية عشقا يبور على حظوة الوسادة أملا واغترابا، وطرفة الجوى أكثر الأنواء في بلادي اختصاصا بهطول المطر، و الأنواء حميمية نسجت أفئدة المنهمكين ههنا، وهي منازل للقمر على خارطة النجوم، والأبراج يحفظها المنجمون وينسقون على مواقعها سجايا الناس وأقدارهم. لقد كنا على شرف المطر نعبر أزمنة نفسية متعثرة لا تعبأ بأنس الكمانجات الظليلات، و ا تسمع همس الأمسيات الرحيمات، ولا تنتبه لصرير نزيف العمر الكسيح، و حبات الماء تعبر بي أزمنة تؤرخ للكثير مما لا يقال والبوح لعنات التذكر في حجر الوجع القديم، وتنجز مواعيد الإطراق وخلف باب القلب ألف ألم بألف حلة ليس لها من وشم إلا الصمت في ذات القرفصاء، إلا نخل السيال الكئيب والرمل المثابر على وشاح المدى، وكان الطريق إلى هنالك حيث كانت الأمهات يجلسن على مقربة من السور المبلل بالوجع  يشبه تجاعيد الفجر، عاريا من كل إلهام، وئيدا تنخره طمأنينة عقور، هو الطريق عبر المطر الى البلدة الجريحة ذات الفرح المتروك رحيلا عبر الإخفاقات في رعونتها. ونبضاتي التقطت ثوى في البعيد أنينها حيث تفتر عنه معاقف الروح ولا تسعفني الهنيهة لأسترجع همتي، وفرح الديار غاب بالرحيل وبالقادمين من كل مداشير الجفاء يعمرون زوايا الفراغ بالقصر الترابي القديم الذي انتقل إلى المقبرة بسافلة ذلك الجبل المثخن بالوهم، و همس الأمهات وابتسامات الصبيات وصرامة النهار مثل عذابات البحث المضنى عن لقمة عيش من لدن المزارعين والسواد الأعظم من مستضعفي القصر الطيني المعاند لمكر الانحراف، وكلها رموز أصيلة لعمق الأمكنة المغروسة جراحا غائرة في فناء الخلادة، الأمكنة الناصلة من سقم الخواطر، النابضة كالمواسم للمواسم على شاهدة الشذرات .

   إنه يوم المطر على شرف القلب، والحنين مؤلم على حظوة بلدة الله التي سأكتب عنها مرة أخرى، بلدة الله التي تخصصت كلما جاء المطر في الغناء إيذانا بالفرح على الرحيل، وكل ما يحمله المطر من رائحة بنكهة الأمهات والأزير، وهن يجالسن بعضهن بباب القصر ويمسحن تباعا قطرات المطر على تجاعيد ملائكية تؤثث رموز الوشم الذي يرتسم ألف حزن على محيا وجوههن، و

ما ملامح الأمهات إلا كملامح المطر إلا كهذا القلب ..

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *