بورطري لرجل مناضل آمن بالإنسان حتى النخاع
فؤاد الجعيدي
تعود علاقتي بالأخ الميلودي المخارق إلى سنوات الثمانين، وبالضبط بمعهد التكوين المهني، الذي جرت العادة بتسميته بفيليس وهي الشركة المشهورة بتسويق الإلكترونيات، التي كانت تجاور ذلك المعهد.
ساعتها كان الأخ الميلودي مديرا للمعهد، وهذا المعهد كان بالذات ملجأ لكل المظلومين، من كل ربوع المملكة بالتكوين المهني. كان إلى جانب أخينا رجال آخرين، يهتمون بأخذ الملفات ومعالجتها مع الإدارة المركزية.
نضجت الظروف النقابية، وبكفاحاتها الاجتماعية السابقة لنساء ورجال التكوين المهني، فأثمرت المؤتمر الوطني الأول، للجامعة الوطنية للتكوين المهني، كان عرسا بكل المقاييس، وفيه تقدمت الجامعة بدفتر مطلبي، لم يرتبط بالمطالب الأجرية وظروف العمل، بل كان أيضا مناسبة لتقديم أطروحات حول ما ينبغي أن تكون عليه المناهج والمقاربات في التكوين المهني من أجل خدمة تطلعات الطبقة العاملة.
في نهاية أشغال المؤتمر، عشنا ليلة بيضاء، بإحدى فنادق الدار البيضاء على واجهة المحيط الأطلسي نساء ورجالا، وقد فتح باب عهد جديد في التنظيم، لخوض النضالات المطلوبة من أجل تحسين أوضاعنا الأجرية.
كانت أجورنا بالكاد، تكفي للمقاومة من أجل ما يشبه الحياة. في تلك المرحلة هاتفني أحد الإخوة من المكتب الوطني للجامعة الأخ بلغازي أطال الله في عمره، بأن رفيقي الميلودي يود لقائي في أمر ما.
في الواقع في تلك الفترة، كانت لي مهام في قيادة التقدم والاشتراكية بسطات، كانت مهامي جسيمة، لا حول ولا قوة لي بها في مساندة الفلاحين الفقراء بربوع الشاوية ومرافقة والباعة المتجولين في محنهم اليومية مع السلطات المحلية وحجز سلعهم.
ترددت، وامتنعت. في لقاء مع الرفيق الميلودي، أخبرني باختياري لمهمة تكوينية بمكتب العمل الدولي بمدينة طورينو، وبعدها إلى زيارة مقر منظمة العمل الدولي بالعاصمة السويسرية.
كان الخبر علي كالصاعقة، في الواقع لم تكن لي رغبة في السفر، في تلك الأيام، فأصر الرفيق الميلودي، وكان علي الانضباط للقرار والاختيار والثقة التي وضعت في من طرف منظمتنا، وكانت تفزعني هل سأكون أهلا لها؟ بعد يومين من قبولي، أخبرني عزيزي الميلودي بلقاء الأخ المحجوب بن الصديق. كان رجلا قصير القامة بهية الطلعة، ثم توجه بالسؤال للأخ مخارق؟ هل المرشح للرحلة على دراية بالعمل النقابي،، رد الميلودي بالقول (طافارييش) يعني أنني من اليسار، كنا ساعتها كما يحلو للراحل بن الصديق تسميتنا بالملح للطبقة العاملة.
عدت في اليوم الموالي إلى المقر الاجتماعي، للاتحاد المغربي للشغل، رافقني الأخ المخارق للقنصلية الايطالية، من أجل الحصول على التأشيرة. أخذ جواز سفري، ووضعت عليه مصالح القنصلية الايطالية التأشيرة، وفي الطريق ناولني مائة دولار، لأنه يعلم في ذلك الوقت، أني لا أتوفر على سنتيم واحد، وفي ذات الآن دعاني لبيته داخل أسرته.
بمرحه المعهود، فتح باب بيته، وصاح في وجه زوجته المرأة الطيبة، هذا رفيقي فؤاد ضيفي، لوجبة الغذاء، كان غذاء بيته، وجبة من السردين. لم يترك لي الفرصة لأخبره، أن أشهى طعامي السردين، سردين البيضاء الذي يشبه الفضة، ويشبه نسيم البحر وهواه ، لكن رفيقي لم يهملني وتوجه بي إلى الميناء لمقهى المحجوب احتفاء بي، احتفاء لن أنساه ما حيت.
كانت المائة دولار، كفيلة بنقلي من مطار طورينو، إلى مركز مكتب العمل الدولي للتكوين، حيث التقيت بالوفود العربية للنقابات العمالية، من فلسطين والعراق ومصر وتونس والجزائر والأردن ولبنان .. كونت صداقات بحكم اطلاعي على الثقافة العربية، وتاريخ النضال العربي للقوى الاجتماعية في العالم العربي.. ومثلت الاتحاد بكل موروثه النضالي والتحرري، بحكم تجذر الثقافي العمالية في وجداني النضالي..
كانت الرحلة، مرحلة جديدة في تكويني السياسي والنقابي، وكانت أيضا عاملا من عوامل ارتباطي بالاتحاد المغربي للشغل، والذي انخرطت في صفوفه كمنظمة عمالية جماهيرية تقدمية ومستقلة وديمقراطية تتعايش فيها العديد من الفصائل السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تمرست على مستوى التنظير والممارسة، المرتبطتان بمسؤولياتي المحلية والجهوية والوطنية، داخل الاتحاد المغربي للشغل. وصرت أكثر قربا من الأخ المناضل الميلودي المخارق، الذي صار وعن جدارة واستحقاق الرجل الأول، في أكبر منظمة عمالية بالمغرب والمؤثرة على المستوى العربي والإفريقي والدولي.
في ظروف اجتماعية بالغة الدقة والتعقيد، برز اسم الأخ الميلودي المخارق، أكثر حضورا على الساحة الاجتماعية، بالتصدي للنموذج الاقتصادي الفاشل، والذي أنتج الفقر وعمم الهشاشة على المغاربة، برز نجم الأخ الميلودي مناضلا أمينا على الطبقة العاملة، في الوقت الذي أفل فيه نجم من زايدوا وراهنوا على استخدام الطبقة العاملة، وساوموا بها على التقاعد و رفضوا مطالبها العدالة.
قال لي الأخ المخارق، لما عبرت له عن غضبي ممن، اعتصموا بالاتحاد من مستخدمي التكوين المهني، أولئك المتعاقدون والذين فور انتزاعهم للنصر، تحت مظلة الاتحاد المغربي للشغل، بحثوا ولنوايا ضيقة في الارتزاق من بيت سياسي وعن ذرع نقابي بحثا في أكل مال السحت.
أكد لي رفيقي الميلودي، لو عادت نفس الظروف، سيظل وفيا للعهد للدفاع عن حقوق هؤلاء، في الترسيم وفي ظروف عمل لائقة، إنها القناعة التي لا محيد عند الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل.
إنه يناهض مبدئيا، استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ويسعى دوما لرفاهيته. إنها روح نادرة، لمناضل تشبع حتى النخاع بحب الناس ومقت الاستغلال.
في الأسبوع الأخير، كنت بمكتبه، رفقة رفاق من التكوين المهني بجهة الرباط، حدثنا عن حب والدته، وكيف قرر أن يبني لها غرفة بجانب غرفة نومه، وكلما داهمها، الألم جالسها في أي ساعة من ساعات الليل، يحضر لها قهوتها المفضلة بيديه. كان يحكي عن والدته، تذكرت والدتي لما اشتد بها ألم مخاض الموت، لم أقو على نصرتها، كم بكيت واستسلمت في نهاية المطاف أما جثتها.
الأمهات لا يستوعبن كبر الأبناء ولا مسؤولياتهم الأسرية والوطنية والدولية. في عيونهن يظل أبناءهن أطفالا صغارا مدى الدهر.
رفيقي الميلودي، أشعلت فتنة ونيارانا في دواخلي، لما قلت أن الوالدة منحتك صرة من المال، وطلبت منك أن لا تصرفها على البيت، وأن لا تذهب للتسوق من مرجان. ترجتك أن تذهب لمطعم فاخر، أنت فلذة كبدها، وتأكل ما تشتهي وما طاب لك، ولم يكن بوسعك أن تقنعها أنها مستورة ولله الحمد، وبالفعل كما تحكي، وكنت وفيا لرغبتها، وبعدها اشتريت تذكارا من البلور، ليحفظ ذلك السر الأبدي من المحبة ومن الروابط التي لا يعرفها إلا رجال ( صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ما بدلوا تبديلا ).
في لقاء حميمي جدا، كان فيه العمال مهددون في قوتهم اليوم، وقصدناك لمكانته على رأس هرم الاتحاد المغربي للشغل، رفقة الكاتب العام للاتحاد المحلي بسطات، في قضية عمال المناولة من لافارج هولسيم، أكدت لنا أن المصالح الحيوية للطبقة العاملة وحقها في الحياة، خط أحمر ولا يجوز التفاوض على الاعتداء في أي ظرف كان وأن الاتحاد المغربي لم يخلق إلا كضرورة تاريخية لحماية العمال، والدفاع على حقوقهم وحقهم في اختياراتهم النقابية الحرة، والتي يضمنها التشريع الوطني والقوانين الدولي.
إنه رجل لا يساوم على حقوق الطبقة العاملة، وبذلك بوأته المكانة الرفيعة لقيادة مشعل الكفاح التحرري ضد الاستغلال ومناهضة المخططات الامبريالية.