يا علي انهض من قبرك لترى ما فعل فينا النبلاء وفي حزب التقدم والاشتراكية
فؤاد الجعيدي
لمن له ذاكرة قصيرة أو لا ذاكرة له، أن قراءاتي لواقع حزب التقدم والاشتراكية، لم تكن وليدة اليوم، بل كانت ولا زالت، خيارا ثابتا في إطار المرجعيات، التي آمنت وتشبعت بها حتى النخاع، وهي قيم الاشتراكية العلمية، وتقاسمت هذه الأفكار مع رفاق في خلية فرحات حشاد، التي جمعت خيرة مناضلي الحزب وعلى رأسهم الرفيق ليفي شمعون، الذي كان يقدم لنا الأجوبة على قلقنا السياسي وفي كل مناسبة ينقلنا، إلى تاريخ المحن والسجون التي تعرض لها المناضلون في سنوات العمل السري ومغرب سنوات الجمر والرصاص.
لم نكن في الحزب كتلة واحدة، بحكم المواقع الاجتماعية للرفاق، لكن القواسم والروابط المشتركة والتقاطعات بيننا، كانت قوية وتعمل على تقويتها تلك الافتتاحيات، التي عهد للرفيقين عبد المجيد الذويب وليفي شمعون بكتابتها، ويساهم بأركان ومقالات أخرى رفاق القيادة ، أبو ثعلبة والذي لم يكن سوى عبد السلام بورقية شيخنا في التراث الإسلامي المادي في جوانبه المضيئة وشعيب الريفي، الذي حين قرر المكتب السياسي وضعه على رأس جريدتي البيان، لكنه دخل في صراعات قوية انتهت به إلى انسحاب الحكماء.
يوم التقيته في إحدى أيام أيار، بعد انتهاء مسيرة الاتحاد المغربي للشغل بمناسبة الفاتح من ماي، ونحن نمر بجوار المقهى، الذي كان يلتقي فيه الرفاق للبيع النضالي، وهو التقليد الذي تم التخلي عنه، وبالمناسبة كنا نسجل أن أصحاب ربطات العنق يخجلون من المساهمة فيه ولا يتواضعون.
كان الشارع البيضاوي قرب الجيش الملكي ممتلئا بأصحاب البذلة الزرقاء، واللافتتات والقبعات، قال لي الراحل شعيب الآن صرت متفرجا على هذا المسرح الاجتماعي، قال بصدق وسخرية. ثم سألني عن مول الحزب، هذا الذي بات اليوم يرتدي أسمالا قديمة، ويحضر بها اجتماعات المكتب السياسي، بعد أن تخلص من المجموعات الشبابية التي كانت شعلة بمدينة سطات، تخلص منهم واحدا واحدا وفي كل مرة، كان يواجه فيها رفاقا أشداء، استطاعوا أن يتابعوا دراساتهم العليا واليوم منهم الحاصلون على الشهادات العليا والذين لهم حضور في الواجهة البرلمانية أو الإعلامية ومختلف محطات الحراك الاجتماعية.
لكن مول الحزب الذي أغلق عشرات المقرات: في الدروة والسوالم وابن أحمد وانتهى بنحر الفرع الإقليمي لسطات، لم يعد يقوى حتى على الظهور بالفضاءات العمومية.
سألني عنه الراحل شعيب وقال لي: لما العروبي كتب تلك المقالة ليلة شيوع خبر رحيل ملك البلاد الحسن الثاني رحمه الله، وبذلك الأسلوب الذي لا يخفي انتظار هبة من الأعتاب الشريفة في مرحلة انتقال لم يحسن قراءتها، وبعد ذلك ظل يرتدي قبعة ماوية، ويلتقط بها الصور، كما يفعل المراهقون. ثم انتهى به المطاف، لترويج الكذب والافتراءات على الرفاق.
في المؤتمر الخامس لما كان تيار لازلنا على الطريق، في أوجه ووقعت التوافقات، كان علي يعته قادما من إحدى الممرات الضيقة ويضرب بيديه على فخذيه ويقول بصوت مسموع( أويلي حتى هو يصعد للجنة المركزية ).سألت الذويب عن سبب غضبة علي عن هذا الرهط، قال لي علي له من مصادر المعلومات ما يؤهله لمعرفة ما لا نعرفه.
لما صار هذا الرهط، يأخذ معارك مع الرفاق الشباب، وفي كل مرة يطردهم بالعشرات وهم من خيرة الشباب في فترتهم الطلابية بالجامعة وفي أحيائهم، ومرتبطون بالمعارك اليومية للناس، ويقدم نفسه أنه المتحكم في مفاصل التنظيم، لكن لا شيء يرتفع عن الواقع الحي، لما غلب مصالحه الذاتية، ولم يحسن لنوايا ضيقة التعاطي مع الواقع العنيد ولم يرضخ لإرادة الشباب، الذين يملكون ويتحكمون في موازين القوى داخل مدينة سطات، قتل الحزب وداس على رصيده ثم بات ينقل خبثه وسمومه إلى مدن أخرى وساهم في انهيارها، كآسفي ومراكش.
ابتعدت وابتلعت لساني، لكن الشر والانتهازية ظلت تطاردني، ولما بلغ السيل الزبى قررت، الكشف عن كل الفظاعات اللئيمة وغير الإنسانية التي مرت بي.
لم أختر أي حزب، ولم أرتم في أحضان أي تيار، ظل تواجدي في الجبهة العمالية أدافع بقلمي عن الأجراء والمقهورين اجتماعيا، ولم أبدل تبديلا.
كما كنت أفعل من داخل الحزب، لما ساعدني الرفيق الذويب وجعل مني رئيسا لهيئة التحرير لجريدة عالم الشغل، وكنت مكلفا بصياغة الافتتاحيات، وفي احدها، كتبت عن كلفة الأنتلجنسيا بالمغرب، لما صار رفاق لنا يتمتعون ويراكمون أكثر من أجر، أحدهم تخيل جريدتي الحزب المكافحة كزجاجة عطر في زمن التحولات المنفلتة، ولا زال إلى اليوم وفيا لهذه المصطلحات البرجوازية التي تخفي وتوحي بنزعات النفس الديمقراطي وهي لغة لا ترقى لما تتطلبه الظروف والأوضاع وغير قادرة على تغيير الواقع بل الاستئناس به على شاكلة الشعراء الغنائيين .
والآخر الذي تتلمذ في مدرسة البنك، يوم عهد له بمسؤولية سامية، أولى المهام التي دشن بها عهده بالمسؤولية العمومية غير أثاث البيت الوظيفي، وثالثهم كان صاحب بذلة سوداء ورضي بإدارة مؤسسة لم يوضع بعد حجرها الأساسي في حين كانت له أجور أخرى يتحصلها، سواء من مجالس إدارية أو من أتعاب الملفات عن قضايا يترافع فيها وانتهى به المطاف على كرسي أطال الله في عمره.
هذا الرأي كتب في افتتاحية بعالم الشغل، وتكلفت ببيعه النضالي داخل إحدى اجتماعات اللجنة المركزية بالدار البيضاء على عهد الأمين العام حكيم الحكماء اليوم بالحزب.
كان الرفاق الذين شملتهم الافتتاحية، ينظرون لي بحقد أولاد لفشوش، وأنا إلى جانبهم أمام الكنطوار الإسمنتي، أنتظر دوري للحصول على فنجان قهوة سوداء وقت الظهيرة،
عزمني سيدي نبيل بلطفه على أن الفنجان على حسابه، لكن بين يدي كنت أمسك قطعة نقدية مقابل فنجاني أنا.
في ذلك اليوم أشار لي رفيق أن وزني، زاد وكان بجنبي قيادة الحزب، التقطت الرسالة، وكان ردي أن وزني الذي زاد من عرق جبيني، ولم أكن مثله رحمه الله الذي رضي بشقة.. من عطايا زمن الانفتاح لما أتى للحزب ذو مال كبير وغدا يغدق العطايا على من يمجد هذا القدوم.
القناعة التي عشت وفيا لها ومعها، أن حزب التقدم والاشتراكية، هو تراث وطني، ساهمت فيه الحركة النقابية العمالية المغربية بريادة مثقفيها والجماهير الشعبية، وخاض الكفاح المسلح من أجل المساهمة في تحرير الوطن، وعاش معنا الناس والأهل في زمن ما، المضايقات والاعتقالات، لذلك فهو بالضرورة ملك جماعي لوعي جمعي قاد إلى خلقه وتأسيسه لضرورات الصراع الطبقي.
ومن هذه الخلفيات، لا أستسيغ اليوم سماع، هذا الباطل أذهبوا وأسسوا حزبا، فأرض الله واسعة. سمعت هذا القول، في بداية الألفية الثالثة من عضو من المكتب السياسي، لم يكن له الجفن الذي يرف خجلا، لإصدار هذا التعبير الممخزن، ومرت الأيام ولم أعمل بخطيئة التي يتمناه كل مستبد اليوم.
هؤلاء الذين يتنطعون اليوم على رفاقهم، أعرفهم واحدا واحدا، وأقسم بشرفي وبعذريتي السياسية وبعفتي، أن هؤلاء في الاستحقاقات التي تقدموا لها في وقت سابق، أكدت أن جيرانهم لا يعرفونهم وليست لهم بهم روابط إنسانية، فكيف يتجرؤون اليوم عن الحديث باسم الجماهير.
يريدون تحويل الحزب إلى وكالة، لها مقر اجتماعي، هذه الوكالة لما أعلنت على نداء للتبرع بالدم لم يجتمع بها، سوى 120 مناضلا والغريب أن المكتب السياسي، الذي وجه الدعوة لم يحضر منه إلا وجل وامرأة.
لذا سأنادي علي للنهوض من قبر لمعاينة مأساة رفاقه، وإلى أين قادنا التحكم الأناني الأعمى والتضليل السياسي.
إلى الحلقة القادمة.