رحيلُ نبيل بنعبد الله مصلحةٌ وطنيةٌ عليا
عبد الرحيم الوالي
كان اقتراع السادس عشر من يونيو الجاري درساً قاسياً للحزب الظلامي، وللذين يدورون في فلكه، بعد أن خسر ذراعُه النقابي انتخابات اللجان متساوية الأعضاء.
هذه الخسارة المدوية، ونحن على مشارف الانتخابات التشريعية، تُعتبر بمثابة مؤشر واضح على المنحى الذي سيتخذه التصويت على الأرجح،. فقد كانت السنوات العشر التي قضاها الظلاميون على رأس الحكومة كافية لكي تستوعب كثيرٌ من الفئات الاجتماعية الدرس. ذلك أن كل الوعود التي قدموها للناخبين، في محطتين تشريعيتين متتاليتين، قد ذهبت أدراج الرياح. وبقدر ما كانت السنوات العشرُ عِجافاً على الشعب كانت سِمَاناً على « الإخوان » فاستبدلوا سياراتهم المتهالكة بآخر ما أنتجته تكنولوجيا المَطَايَا الحديدية، وغيروا زوجاتهم اللائي ذبلت أنوثتهن بما يُحيي العظام من رحيق الشفاه ورشيق القوام، وتحولت مكاتب الوزارات من أماكن لتدبير شؤون الأمة إلى مخادع للاستحمام، والاستجمام، وأكل الحَمَام وتبادُل همسات الغرام. وتساوى في التنعُّم بأموال الشعب « أبو صندالة » و »ذو المعاشين » عليه السلام.
واليوم، إذ عبرت الفئات المهنية عن رفضها للاستبلاد وألقت بالذراع النقابية للظلاميين إلى سلة المهملات، فإن ذلك لا يعني نهاية الخطر الظلامي. بل إن الخطر الظلامي الأكبر يكمن في ما بعد الانتخابات التشريعية القادمة، وفي ما بعد السقوط الراجح للحزب الظلامي، من قيادة الحكومة أو حتى من الحكومة جملة وتفصيلا. ذلك أن هذا السقوط سيعيد الحزب المذكور إلى ساحة المعارضة. وفي هذه الساحة الأخيرة سيلجأ كالعادة إلى خطاب المظلومية، و »التحكم »، لتبرير فشله في تقديم حلول لمشاكل المغاربة طيلة عشر سنوات من قيادته للحكومة. أضف إلى ذلك أنه سيستثمر، كما فعل دائما، الأوضاع الاجتماعية للفئات الدنيا من المجتمع، ليعمل على تجييشها عبر « قفة الإحسان »، وما شاكل ذلك من أساليبه المعروفة. وسيساعده على ذلك حتما غيابُ قوى سياسية منافسة تحتضن مطالب تلك الفئات وتدافع عن حقوقها. وهنا يبرز السؤال: مَن هي القوة السياسية التي سيتعين عليها ملء فراغات التأطير السياسي للفئات الدنيا والمتوسطة من المجتمع؟
يبدو أن الجواب قد ظل يقدمه التاريخ المعاصر دون كلل حتى الآن: اليسار هو القوة التي يتعين عليها موضوعيا أن تنهض بهذا الدور. ومتى تراجع دور اليسار المسؤول ظهرت النزعات الانحرافية، ونمت الطفيليات المتطرفة، وتفشت الرداءة والتفاهة وكان خطر الظلام أكبر. والنماذج حاضرة،أمامنا من اليمن إلى السودان. وعليه، فإن المطلوب اليوم هو استعادة اليسار المغربي المسؤول ليقوم بمهمته التأطيرية من موقع المعارضة، فيحتضن مطالب الجماهير الشعبية ويدافع عنها حتى لا تكون تلك الجماهير غدا بين براثن الخطاب الظلامي و »قفة الإحسان ». وفي هذا المنحى يرتسم الدور المستقبلي لأقدم حزب يساري في النسيج المغربي: حزب التقدم والاشتراكية.
ولكي يكون الحزب قادرا على التصدي لمهمة من هذا القبيل، فإن عليه أولا أن يتطهر من رجس تحالفه مع التيار الظلامي. وهو ما لن يتأتى إلا برحيل كل من كانت له مسؤولية في المهزلة. وفي طليعة هؤلاء الأمين العام الحالي لحزب التقدم والاشتراكية، الحاج محمد نبيل بنعبد الله.
لقد سِيقَ الحزب التقدمي، الذي كان بالأمس طليعة ثورية للعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، ليُسَامَ سُوءَ البهدلة في تحالف نشاز، جعل منه ذيلاً لمشروع ظلامي، رجعي، نكوصي. وبعد أن كان الحزب حتى عهد قريب يفتخر بنظافة أيدي مناضلاته ومناضليه فُتحت أبوابُه لمَن لا يرى في السياسة إلا وسيلة للتحصيل والتحصين: تحصيل الثروة والامتيازات وتحصينها. وبعد أن كان الرفاق يتهيبون من مهام المسؤولية في الخلايا والفروع، أيام برنامج الثورة الوطنية الديموقراطية، أضحى ال »قادمون » يتهافتون على المواقع داخل قيادة الحزب، ولم تعد هذه الأخيرة تسمى ب »المهام » وإنما صارت تسمى « المناصب ». وكل هذا، وغيره كثير، جعل صورة الحزب تهتز في أعين الشعب المغربي الذي – وإن بدا غير مهتم بالأحزاب – يتتبع أخبارها وشؤونها ويحولها إلى مادة للفكاهة في وسائط التواصل الاجتماعي. ولذلك فإن أول الطريق نحو استرجاع صورة الحزب لدى الجماهير الشعبية هو رحيل القيادة التي تتحمل المسؤولية عن هذه البهدلة.
ورحيل هؤلاء، وفي مقدمتهم الحاج محمد نبيل بنعبد الله، يجب أن يتلوه انتخاب قيادة جديدة نظيفة مع الإعلان عن عملية نقد ذاتي كبرى، بشكل صريح وعلني، وبأعلى درجات المكاشفة الممكنة مع جماهير الشعب. فهذا وحده من شأنه أن يعيد الثقة للمناضلين الحقيقيين الذين نأوا بأنفسهم عن مستنقع الانحراف ويقنعهم بالعودة إلى صفوف الحزب، وسيساهم دون شك في تحسين صورة الحزب لدى الرأي العام، وييسر عودته إلى الطريق الذي انحرف عنه تحت قيادة الحاج نبيل والذين معه. وإذا ما حدث هذا، فإن الحزب سيتمكن من لعب دور هام جدا على المدى القريب في إعادة إنعاش الحياة السياسية والنقابية والجمعوية، وتوفير فضاءات تأطيرية للفئات التي يمثلها. وإلى جانب مكونات اليسار المسؤول الأخرى، يمكنه أن يساهم في تضييق مساحات اللعب التي يستغلها الظلاميون، وتذويب خطرهم الفكري والسياسي بالتدريج.
لماذا نحتاج كل هذا؟
ربما لأن المهمة الاستراتيجية الكبرى الآن هي بناء مغرب النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، في عالم يسير نحو « الوعي الاصطناعي » و »تجاوز السكتة الدماغية » و »إعمار المريخ »، وغيرها من الرهانات التي يستحيل الاندماج فيها إذا لم يتحرر المجتمع المغربي من الأوهام الثقافية الكبرى. فالمواطن، الذي سيتصدى لمهام هذه المرحلة، يجب أن يكون مسلحا بوعي مندمج تماما في عالم المدن الذكية وما بعدها. ولتحقيق تقدم من هذا القبيل على صعيد الوعي الفردي والجماعي لا مناص من تذويب النزعات النكوصية التي تشدنا إلى الخلف، وفي مقدمتها نزعةُ الاستغلال الحزبي والسياسي للدين، التي تسمي نفسها ب »الإسلاميين »، أي الذين نسميهم هنا بالظلاميين. فلو كان لهم بالفعل نورّ من الله كما يزعمون لما فشلوا ولَمَا أساؤوا وأفسدوا بعد أن قالوا إنهم مُصْلِحُون.
أجل، إن عودة اليسار المسؤول في عمومه، وحزب التقدم والاشتراكية خصوصا، إلى دوره التأطيري في صفوف الجماهير الشعبية، يصب في صميم المصالح الوطنية العليا. ولكي يتحقق ذلك فعلى القيادة المسؤولة عن المهزلة أن ترحل، أي أن رحيل الحاج محمد نبيل بنعبد الله والذين معه هو الآن مصلحة وطنية عليا.