وسقط السقوط أيها الرفاق

وسقط السقوط أيها الرفاق
شارك

فؤاد الجعيدي

في صفوف حزب يساري، كنت أناضل إلى جانب رفاقي عبر التراب الوطني، ضمن قناعات برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية وكانت أحلامنا أن نحيا في وطن حر وسعيد.. أحلامنا تشبه أحلام الفقراء في بيت هادئ وصغير وعلى بابه مزهريات الورد وأهازيج الأطفال بأناشيد تمجد الوطن. وكنا كالرسل في الساحات نبشر الناس، بغد آت لا ريب فيه. ونقول بثقة الشجعان أن الأرض لمن يزرعها وأن المدرسة هي ذاك الحق الطبيعي لتربية الناس، وتسلقهم الاجتماعي ونمجد العاملات والعمال وفي كل اللقاءات  نتحدث أنهم صانعوا الخيرات. ونتهافت على كتب الفلسفة ومنشورات دار التقدم وعن ثورات الشعوب في التحرر من الهيمنة الامبريالية والمحطات المنيرة في تاريخنا العربي والاسلامي وعن رجالات من تاريخنا الوطني.

كانت أحلامنا لا يمسك بخيوطها سوى تلك الجريدة بمطبعة قديمة التي تملء رائحة الرصاص أرجائها ويأتيها الرفاق من المدن البعيدة والمداشر، ومن خلف الجبال يحملون هموم الضعفاء ويفضحون أسرار المتسلطين.. ثم يعدون بمنشورات ما أشبهها بالفيتامينات يقاومون بها تعب الأيام وأعداد من الجريدة اليومية التي كانت بالرغم من رداءة طباعتها، نتخيلها كنزا ثمينا بافتتاحياتها التي تنور الطريق وتوحد التصورات.

لما بدت رياح البيرسترويكا تهب وسياسة الغلاسنوست تتجذر، انهار جدار برلين، لكن هنا كنا لا زلنا على الطريق، والأحلام فينا تكبر والأمل يتسع، غير أنه في الواقع كنا نخرج من الحجر الصغير إلى الحجر الأكبر، بتصفيات متوالية مست رفاق الأمس القريب وظهر جيل جديد، يجيد التخابر والمؤامرات وصناعة الدسائس للتخلص من جذور الشجرة القديمة ومن طيبة رائحتها.

في الواقع أن الجيل الجديد هبت عليه نسمات العولمة وعطر هذه السوق التي وحدها تعود لها المشروعية في تحديد القيم. واندثر الحديث عن لغة التناقضات الجوهرية والثانوية وأخصي الكلام من التأمل في الأجور والأسعار والأرباح ثم غاب السؤال الأبدي عن ما العمل؟

كرونا وحدها توقظ المواجع في هذا العالم في الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات والحكومات في الناس داخل بيوتهم وأمام المتاجر، بحكمة قديمة ( اعطيني مترو ديال التساع ) وعمت الكمات أفواه البشر الذين باتوا ينصتون أكثر مما  يتكلمون..

كرونا جائحة لاختبار الشعوب والساسة والسياسات في امتحان عسير وصراط مستقيم، والاختبار هذه المرة لم يستثن أي أحد منا.. بدا في ظاهره حث الناس على الالتزام بشروط الحجر الصحي ثم غرقنا في الشعارات وفي الأخبار الزائفة التي يتداولها عامة الناس، وفي تأويلات علماء شراب الخدنجال..

 وحدهم، نساء ورجال الصحة في العالم من رابطوا في الصفوف الأمامية يقاومون  هذه اللعنة القاتلة ويوقظون ضمائر العالم في الدفاع عن الحق في الحياة.

وعادت النصوص التي انتصرت عليها الامبريالية مرة أخرى للحياة وتعرف الناس على اوهان بالصين الشعبية وكيف أن دولة المليار والنصف من البشر قد حاصرت الوباء وكيف تفشى الفيروس في نيويورك يأكل الناس بجوار أبواب ناطحات السحاب ويرحل بهم إلى المقابر بآلاف الأعداد.

عادت الايديولوجيا واشتعلت نجمتها في مجالس الحكومات، عاد جوهر ذلك الكلام الذي كنا نصنع تفاصيله، بتلك الجريدة ذات الطباعة الرديئة والتي كنا فيها نعلن صراحة، وبدون لف أو دوران أن الرأسمالية بجشعها هي الوباء هي التي تأكل الناس، وتمتص دماء صانعي الخيرات.

 كرونا هي الرأسمالية في أبهى تجلياتها. انكمشت أذرع الأخطبوط الطويلة وجمع لوامسه المليئة بالمصاصات من بحار الأسواق العالمية، وغدا يعترف لشعوبه في هذه الضائقة أن هناك اختلالات تحتاج إلى إعادة صياغة الرؤى من جديد.

في أمريكا جاء وزير التعليم يحدث الناس عن التعليم عن بعد تحدث بجرأة للناس في خلاصات عظيمة وعدد الأخطاء والعوائق واقترح إجراءات لتثمين التجربة وذلك بتعميم اللوحات الالكترونية على الطلاب وإحداث منصات للطلبة الراغبين في لقاء الأساتذة وأخرى للراغبين في تعلم اللغات وخطوط للأسر للاتصال بالأساتذة والاستفسار عن أبنائهم وشدد في الإشادة برجال التعليم وعظم المبدعين منهم في المنصات التواصلية ، صانعا للناس أفقا جديدا لما بعد الكورونا.

في اسبانيا جاء كل أعضاء الحكومة، كل وزير حدث الناس عن إدارته وعدد تدخلاته الميدانية والإجراءات التي اتخذها تحت مسؤولية رئيسهم عن الصحة والنقل.. ورئيس الأمن تكلم عن عدد المخالفين لإجراءات الحجر الصحي كيف توالت التنبيهات ثم جاءت الاعتقالات والمحاكمات والغرامات المالية. كل شيء جهرا وأمام عيون الكاميرات.

الحكومات في العالم المتقدم تخاطب الناس دون وسيط، لكن عندنا هذه الحكومة التي أطلت علينا برأسها من صناديق الاقتراع لا زالت تخجل منا ولا تقو على التواصل معنا ولها ما تخجل منه. فهي لا تتوفر على برنامج لإدارة الأزمة والوزير الوسيم فيها جاء بفرح قبل ليلة العيد تحدث للكاميرا من وسط وحدة انتاجية عن توفر عشرات الآلاف من الكمامات ولم ينتظر وصولها لنقط البيع وتحدث للكاميرا كرجل تسويق للمنتوج، أن بيع الكمامات سيكون ضمن علب تضم كمية معينة من الأعداد في الوقت الذي كانت فيه الصيدليات تعلق ملصقات تفيد بعدم وجود الكمامات.

ألم أقل لكم أن كرونا حساب عسير واختبار للنباهة والحنكة السياسية، فرئيس الحكومة الوديع أصدر فتوى أن الكمامات لا تخص سوى المصابين، أية مصيبة هذه ؟حمدا لله أن جاءت مقتضيات قانونية في المرسوم المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ  الصحية ولإلزامية حمل الكمامات.

تأخذني الوساوس وتؤرقني، كم من إجراءات قامت بها بلادنا ومن باب السبق في التعاطي مع الجائحة منذ مجيء البعثة الطلابية من الصين الشعبية كم من الإجراءات أقدم عليها عاهل البلاد لتجنيب بلادنا  الكارثة التي تعرفها العديد من البلدان. لكن الجهود المبذولة لم تجد من يعمل على ايصالها للناس والتواصل معهم وتبديد مخاوفهم باستحضار القناعات التي ترسم أفقا لتجاوز الأزمة. فالناس حائرون في أمر حكومتهم التي أتت من الصندوق ولم تخرج في هذه الضائقة ليروها كما ترى الشعوب حكوماتها تتحدث في القنوات الإعلامية الدولية، صباحا ومساء.

كرونا ببساطة هي أسئلة، غدا إلى أين نسير ونتجه دون ترطيب لأجوافنا بشراب الخدنجال؟

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *